حلاقي الذي افتقدته!
أجمل الهواجس وأرق أحلام اليقظة هي تلك التي تحضر وأنت بين يدي الحلاق، تسلمه رأسك أو ذقنك دون عناء، هو سيعبث .. لكن وفق الطريقة التي تريدها وهو يعرفها، متى ما كان الحلاق يعدّك من زبائنه ويعلم الطريقة التي تريد أن تكون عليها لأن الاستقرار عند حلاق بعينه يأخذ زمناً غير قصير، وبعد أن تتنقل من يد حلاق إلى آخر لتجد ضالتك في أحدهم، ووفق مفهومك "حذق نظيف"، يجيد القص والحلاقة، تستقر عنده وتمتد العلاقة إلى تبادل التليفونات لأجل ألا تضرب مشواراً ثم تجد المقاعد ملأى بالزبائن.
وبصراحة فلكل منا حلاقه الذي يرتاح إليه، لأن للحلاق مهام خاصة، ومنك تنازلات خاصة بهذا الرجل لا تمنحها كائناً من كان حتى لو كانت زوجتك، ذلك الإنسان الذي يستطيع أن يلوي عنقك ويضع إصبعه في عينك، بل يقبض على خدك" ويمصع" أذنك، وأحياناً يمسح انفك ويلوي شفتك!!.
وأنا كما كثيرين أميل إلى حلاق معين، أذهب إليه في دكانه، وحين أستقر على الكرسي، هو يعرف ما أريد، وكأنه جراح في مستشفى يتهادى في معطفه الأبيض، الذي فرض عليه من البلدية، في إطار الحملات على دكاكين الحلاقة. يبدأ بنظرة فاحصة.. ثم ما يلبث أن يختار "العدة" التي يريد أن "يسمكر" بها وجه أو رأس الفقير إلى عفو ربه، هنا هو يريد أن يرفع من قيمة عمله، فينطلق بأسئلة خاصة يريد من خلالها أن يبين للجالسين الآخرين أن من هو بين يديه يظهر في التلفزيون، ولأن "المتكوم" أمامه وسط قطعة قماش بيضاء تمنع تساقط الشعر على ملابسه، هو المعني، فينتفخ قليلاً ويرمي بنظرات من خلال المرآة التي أمامه ليشاهد ردة الفعل على وجوه بجانبه ومن خلفه.. لكن يا للحسرة .. فهم "ما جابوا خبره" أو بالمعنى الصحيح ، أن هذا المنتفخ لا يعنيهم .. وخير إن شاء الله .. الأهم لديهم ، أن يستعجل هذا الثرثار ومعه "المتكوم"، كي يكسبوا بعض وقت بدلاً من هذا الهذر الفارغ.
الحقيقة أن حلاقي يميل إلى الفلسفة كثيراً ويبدو أنه استقاها من خلال شاشة التلفزيون الذي أمامه.. فهو صاحب وجهة نظر عن أمريكا، ولديه حلول آنية لمشكلة الغلاء.. ولا ينسى صراعه الدائم مع البلدية، وكيف أنها تريد من الحلاقين أن يكونوا كالأطباء.. وسط قوله: لنقبض من الأموال ما يقبضه الأطباء ثم يحاسبوننا، هنا لا أنكر أنه محترف وبدا لي أنه يستمتع بعمله، لكن.. "مثل الأطباء.. كبيرة شوي".
هو دائم التذمر ويبدو أن التذمر بات لازمة لكل من يتعامل مباشرة مع الناس، وحلاقي واحد منهم، وتذمره الأساس من اختلاف الزبائن على ما يرغبون في مشاهدته، وكثرة المطالبة برفع الصوت أو خفضه، ناهيك عن أنهم "أي الناس" أصبحوا لا يطيقون الانتظار.. ويدفعون أقل.. وفي الأخيرة بسبب لوحة البلدية المعلقة إلزامياً، المتضمنة التسعيرة التي لا تتفق مع الجهد الذي يبذل.
عموماً فبعد فترة افتقدت حلاقي، فلم يكن مع كوكبة الحلاقين في المحل.. وحين هاتفته للسؤال عنه وحاجتي إلى خدماته.. رد بأن عهده مع الحلاقة قد ولّى لأنه بصدد العمل كبائع مع كفيل جديد... وعاشت البلدية ووزارة العمل.. وعاش التخصص المهني، الذي هو من أولويات شروط العمل لدينا!