قوانين البناء المعرفي
كثيرون هم الذين يسألونني: كيف اشتغلت على صقل معارفي، والصبر على القراءة، والتحصيل المعرفي؟ وأنا حين أقارن نفسي بالغزالي وبرتراند راسل، أضحك عليهما وعلى نفسي مرتين، مثل مشلول يقارن نفسه بمحمد علي كلاي في الملاكمة قبل باركنسون. ولكنني أفيدهم في قوانين البناء المعرفي فأقول لهم مجموعة من قوانين تركيز العبقرية وهي كثيرة، ولكن نسرد بعضها:
قانون تكرار وإعادة قراءة الكتاب الجيد عشرات المرات: الكتاب الجيد يقرأ عشرات المرات، حتى يهضم ويصبح في تركيبة المنظومة المعرفية.
قانون تقليم الأفكار وتقليم الأشجار: يجب دوما تطوير الأفكار وتنميتها وإعادة النظر فيها وتمريرها بفلترة العقل النقدي، فالعلم ينمو بالحذف والإضافة وكذلك الأفكار.
قانون الأثر النفسي مع قراءة الكتاب: يعرف الكتاب الجيد بهذه الصفة إذا دخلته خرجت منه بغير النفس التي دخلت به إليه فغيّرك. هكذا روى يوسف إسلام عن القرآن، وهكذا فعل بي كتاب "الفلسفة" لسعد رستم، و"محنة ثقافة مزورة" للنيهوم، و"بنو الإنسان" لبيتر فارب، ومقدمة ابن خلدون، والأحياء للغزالي، و"المقال على المنهج" لديكارت، و"الخواطر" لباسكال، وقصة الفلسفة لديورانت، وكتاب منطق ابن خلدون للوردي، وهي أمثلة من عشرات الكتب التي غيّرت تركيب دماغي.
قانون التغيُّر والتغيير: الإنسان يتغير، والتغيير يتم بالنفس، والسلوك يتبع تغيير النفوس، وتغيير ما بالنفس هو من عالم الفكر، وعالم الفكر يتغير بالكلمة، لذا بدأ القرآن حملة التغيير بكلمة اقرأ.. وثنى بالقلم وما يسطرون، وثلّث بالرفع بالعلم، وربّع بدمج المعرفة بالإيمان، فبؤس المعرفة من دون إيمان يشرح الصدر، ولا بورك لنا في طلوع شمس ذلك اليوم، الذي لا نزداد فيه علما يقرّبنا إلى الله تعالى.
وفي المقابل ما أفقر الإيمان من دون معرفة، ولا يمكن لمؤمن أن يدخل محفلا دوليا، دون الانتباه إلى إضافات المعرفة الإنسانية، وإلا كان مصيره السخرية من المحفل العالمي.
وهي إحدى مشكلات الشلل العقلي في العالم الإسلامي: الانقطاع عن المعرفة وإعادة الالتحام بعربة التغير العالمي، وهو عمل عقلي أكثر منه اقتناء منتجات الحضارة.. فالتكنولوجيا هي نتاج من نتاج، طبقا عن طبق، الفكر العلم ـ الأشياء.
قانون طبيعة المعرفة: طبيعة المعرفة شاملة مؤسسة بالعمق والسطح، فيجب تلقيح الدماغ كما هو في إدخال المواد الأساسية للجسم: الماء، البروتينات، النشويات، الدسم، الأملاح، العناصر المعدنية، والفيتامينات، كذلك إدخال الأفكار إلى الدماغ؛ من عشرين حقلا معرفيا؛ كما هو في إدخال عشرين حامضا أمينيا يحتاج إليها البدن لتركيب وبناء نفسه وترميمها، فكما احتاج الجسم إلى الليزين والأرجينين والغوانين، كذلك هو في حاجة إلى فكر التجديد الديني والكوسمولوجيا والتاريخ والأنثروبولوجيا والألسنيات وعلم النفس والاجتماع الإنساني.
قانون منافذ الفهم: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا؛ إنها أدوات الإيمان بالتشغيل، والكفر بالإغلاق، والكفر لغة الردم والطمر والإخفاء.
منافذ المعرفة أربعة: السماع والنطق، فوجب تدريب الحوار العقلي، والقراءة والكتابة، فوجب تنشيط الذهن بحوافز الأفكار بالقراءة الصامتة. والقراءة الإيجابية، والمنوعة، والصادمة أحيانا؛ فوجب الاطلاع على التراث الإنساني كله، وحسب برتراند راسل، فهو يقول: لو كان الأمر إليّ لعرضت على عقول الأطفال أكثر الآراء تباينا حتى أنمي عندهم ملكة النقد، وما نحتاج إليه اليوم العقل النقدي أكثر من النقلي، ويجب أن يفهم طرفا النزاع في المجتمع، كما ذكر أحمد أمين في كتابه "التاريخ العقلي عند المسلمين"، أنه لو بقي تيار العقل والنقل يعدل بعضهما بعضا بين جموح وكبح، لكُتب للعالم الإسلامي مصير مختلف، بل ربما كما ذهب إلى ذلك (غالب هسا) في كتابه العالم فكر ومادة، إلى قيادة الجنس البشري، ولكن استيلاء تيار النقل وتحطيم العقل ضرب جناح العالم الإسلامي، فهوى طير بجناح واحد يتلوى من هول الوقعة!