المهاجرون الجدد

كانت هجرة القرون الماضية تتطلب انتقالا نهائيا أو في أحسن الظروف هجرة لفترات طويلة، تنتهي في الغالب بانقطاع مباشر بين المهاجرين وأراضيهم التي هاجروا منها، وباستمرار ولدت هجرة الأفراد والمجموعات الصغيرة ما نراه اليوم من أقليات عرقية ودينية ولغوية تشكل هذا الموزاييك البشري الذي يتناثر في أنحاء المعمورة.
إذا كانت الهجرات في القرون الماضية تتم باتجاه واحد نحو العالم الغربي (الموجة الأولى) ثم رأينا تسارعها في اتجاه بلدان الأصل من مواطني هذه الدول الغربية ذوي الأصول الأخرى، (الموجة الثانية) فإن موجة الهجرة المعاكسة من مواطنين أوروبيين وأمريكان، (الموجة الثالثة) تقودنا للموجة الأكثر إثارة والتي ستصبغ ظاهرة الهجرة وتغير مسارها بشكل جذري.
يمكن أن نطلق على الموجة الرابعة اسم (تدوير العقول) وفي هذه الموجة ستكون الهجرة مختلفة عن الموجات السابقة من عدة زوايا.
ـ هذه الموجة ستكون الهجرة في أكثر من اتجاه، فكما رأينا في الموجات الثلاث السابقة اتجاها محددا بين الدول الفقيرة غالبا إلى الدول الغنية، فإن الموجة الجديدة ستكون من الدول الغنية إلى الفقيرة والفقيرة إلى الغنية والفقيرة فيما بينها والغنية فيما بينها، أي إننا سنرى ظاهرة متعددة الاتجاهات وهي شبكة جديدة ذات اتجاهات متعددة.
ـ ستكون هذه الهجرات أقصر بكثير من فتراتها من الهجرات السابقة، فبدلا من الاستيطان لأجيال، أو الإقامة الدائمة ستكون هذه الهجرات في الغالب لسنوات وليست لعقود أو دهور.
ـ سيتلاقح العالم القديم بالجديد، أي الهجرة الجسدية والانتقال بالأسرة والاستقرار شبه الدائم بالهجرة الافتراضية، حيث تستخدم ثورة الاتصالات في تعزيز وجود جديد يمتزج فيه الواقع بالعالم الافتراضي.
ـ ستنعدم مع نضج هذا النموذج الخسارة المتراكمة التي كانت تلحق بالعالم الفقير الذي كان يفقد باستمرار أبرز عقوله ورأسماله البشري، وستسهم ظاهرة تدوير العقول في استمرار النابهين من الدول الفقيرة في الاستمرار ضمن هذه الشبكة العالمية التي تمكنهم من إفادة دولهم بعد أن يعودوا مسلحين بالمعرفة والكفاءة ليكونوا جسرا في الشبكة العالمية التي تدور فيها العقول، ولا تستوطن في مكان واحد يستفيد هو فقط من قدراتها وتفوقها، وبذلك ستخف ظاهرة "الاستحواذ" التي مورست على النابهين من الدول الفقيرة، والتي تأخذ صورة التجنيس والدعم المالي والانقطاع بشكل نهائي عن البلدان التي أنجبت هذه الكفاءات.
إذن نحن أمام ظاهرة "تدوير العقول" بدلا من ظاهرة "العقول المهاجرة" التي سادت لفترات طويلة، وهي ظاهرة مرتبطة بثورات إعادة تعريف المكان من تنافس وطني إلى تنافس عالمي، والزمان من فترات طويلة جدا تأخذ عمر الإنسان، إلى فترات أقصر يختارها المبدع والعالم بوعيه واختياره، وإعادة تعريف المعرفة كجهد مشترك ومفتوح بدلا من أنظمة مراكز الأبحاث المعلقة وستنشأ بسبب هذه التغيرات الهيكلية الثلاثة شبكات تدور فيها ومن حولها المعركة الكبرى المقبلة.
في العدد الأخير من مجلة "فورن آفيرز" Foreijn Affairs كتبت آن ماري سلاوتر عميدة جامعة ودر وولسون للدراسات العامة والدولية مقالا مهما يناقش السؤال المطروح بقوة على كل لسان عن دور أمريكا في هذا القرن بعد أن كان القرن الماضي يعرف بأنه القرن الأمريكي، وأشارت في مقالها إلى وجهة نظرها أن الأزمة الحالية بعمقها وتعقيدها وتأثيرها الهائل في زعامة أمريكا في العالم ستحدث أثرا سلبيا، لكن على المدى المتوسط ستعود أمريكا إلى القيادة من جديد لأن لديها ميزة لا يملكها منافسوها، وهي قدرتها على أن تدير الشبكة الجديدة من العلاقات والموارد البشرية والمادية من خلال نموذج تكون أمريكا "مركز" الشبكة بدلا من أن تكون على "قمة" الهرم كما هو نموذج التفوق في القرن الماضي.
إن القرن الحالي سيكون قرن الشبكات لا قرن الأهرام فمن يستطع أن يوجد شبكة أقوى فسيكون هو الغالب، وفي عالم الشبكات تتحرك الأجزاء، وتتحالف، وتغير مواقعها بسرعة، وتضيف حلفاء ليسوا بالضرورة تابعين أو مملوكين لمراكز الشبكة.. إنه عالم يتغذى بصورة كبيرة على العقول النابهة والمعرفة المتراكمة، وفي قلب هذه الشبكة ظاهرة "تدوير العقول" في موجتها الرابعة، أمريكا تريد أن تحكم العالم بالمهاجرين الجدد بدلا من المحافظين الجدد!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي