صناعة الغول
كتب ياسين الحاج صالح عن نتائج تدمير غزة أن الإسرائيليين: "بفتكهم الرهيب بغزة، لا يقوضون المجتمع الغزاوي ولا يضعفون حركة حماس، بقدر ما ينهكون الطبقة العقلانية الأحدث من الوعي الفلسطيني والعربي، فلم يعد أحد مستعدا لسماع شيء عن العقلانية. وخلال المقتلة ذاتها تصدّر الصراخ الانفعالي والتهييج والتحريض كمقياس لحرارة الوطنية وسلامة الشعور القومي".
وأعرف أنا من كان يؤمن باللاعنف والسلام في مقابلة الأمور، ففقد نصف عقله مع حزب الله وخسر كامل عقله مع أحداث غزة، ومن اعتاد رؤية التلفزيون والدماء جن مع المجانين.
وحين رأيت صديقي الجزائري (المفكر العقلاني) يقفز كالقردة في طهران: عجل الله فرجه، عرفت أن العقل والمنطق علينا توديعه!!
وحسب (غوستاف لوبون) عن عقل القطيع، أن الشخص العقلاني والفردي والنقدي يخسر في زعيق الجموع عقله وفرديته وقدرته على النقد، ويندمج في الهيجان الشعبي دون عقل.
وحسب المؤرخ (ويلز) فإن القبضة الحديدية على الشعوب المقهورة تحول الشعوب إلى حديد.
وحسب (فرانسيس فوكوياما) في كتابه نهاية التاريخ أن المستقبل هو للعبيد، أولئك الذين ينتجون ويعملون ويعرقون، أما المترفون فهم أعظم هشاشة من رياح التغيير، فيكنسون ويصبحون عظاما بعد أن كانوا عظاما. ومعنى هذا الكلام أو تأويله على الواقع، أن الضغط حين يتراكم في الطنجرة البخارية، يجب أن يكون له مصرف، وإلا انفجرت الطنجرة فكان قنبلة حقيقية، وهو ما تفعله الأنظمة الثورية من تكثير مسلسلات الضحك والفكاهة، فترى القوم في زعيق وبعيق وضحكات انفجارية. وبذا لا تنفجر الطنجرة الاجتماعية.. ومن يجلس على تنظيم تنفيس الأمة من الجاندرما والمخابرات يعرفون لعبة القطيع جيدا.. والشعب الفلسطيني شعب اعتاد الموت وامتصاص الصدمات، فتوهب له الحياة على شكلين أو ثلاثة: ديموغرافيا بالتوالد والتوالد، ونفسيا بشروط التحدي، وعدم الخوف من الموت بل خوف الموت منهم؟ وبذا اقترب عندهم الموت والحياة، فكل يوم جنازة؟ فأصبح الموت أمرا عاديا معتادا، من يولد ينتظر الموت فالحياة قصيرة..
أما اليهود فهم في مرحلة يقاتلون من وراء جدر، وستأتي المرحلة الثانية بأسهم بينهم شديد، فيعودون للدياسبورا بعد أن حاولوا توديعها منذ ستين عاما، فارتكبوا أكبر حماقة بإنشاء دولة للكراهية والحرب في محيط طام من العداء والنزاع. وما يحفظ لإسرائيل وجودها ليس قوتها بل ضعف العرب، وفي اليوم الذي يخرج صلاح الدين جديد، أو تنشأ مجتمعات متفاهمة بين الحاكم والمحكوم بقوة الاقتناع أكثر من تكميم القناع، حينها ستولد أمة قوية ترسم مصيرها على نحو مختلف، ويحسبونه بعيدا وهو قريب، فالعرب الآن في محنة كبيرة من التنازع الداخلي، حتى تأتي مرحلة التحول، حينها تتحول إسرائيل إلى فورموزا الشرق الأوسط.
وحسب توينبي فهو يرى أن الحضارات تمر بمراحل من القوة أو الانهيار والتحلل، أو على العكس بالتجمد وعدم الانطلاق نهائيا، أمثال المجتمع البارسي في الهند أو مجتمعات الاسكيمو واليهود والبدو وجماعات المحيط الهادي من البولوبونيز، فهو أي توينبي يرى أن هذه المجتمعات تعرضت إلى ضغوط من أشكال شتى حولت المجتمع إلى متحف حي، فجماعات البولوبونيز مع مسافات المحيط أي تحدي البحر الهائل، وأما الاسكيمو فالبرد القاتل، وأما البدو فالصحراء الغادرة، أما اليهود فالانكفاء الداخلي، وهو ما أدخل اليهود مرحلة عدم الإشعاع؛ فتوقف أن يكون دينا إنسانيا يستقطب الأتباع وتحول إلى نحلة، وهو ما يذكر بطوائف مثل الآميشس والزرادشتيين واليزيديين في جبل سنجار. وخلاصة القول إن التحدي اليوم في الشرق الأوسط هو الخروج من المحرقة، والتصدي للتحدي المناسب، أو ما يسميه توينبي المحرض المناسب لانبعاث الحضارة. وما حدث في غزة منه سالب ومنه موجب، وأعظم مؤشر على إيجابية المحنة وجود المراجعة والتوبة عن الأخطاء .. ولكن من سيفعل؟؟