وزارة العمل تنوء بحملها ...
في مقال طويل على غير عادته بين الدكتور عبد الواحد الحميد في "الاقتصادية" في عدد الثلاثاء 5/3 معاناة وزارته في تحمل عبء رسالتها. ومن يقرأ للدكتور عبد الواحد يستشعر مرارة الإحباط في تعابيره ويستشف مشاعر العتب وخيبة الأمل في تفاعل إيجابي من عناصر المجتمع المؤثرة في منظومة العمل تجاه معالجة الوزارة ظواهر سوق العمل السلبية في المملكة. وإنه لمن المحزن أن يصل مسؤول بنشاط وإخلاص الدكتور عبد الواحد إلى هذه المحصلة من المشاعر بعد أن اشتد به الحماس إلى تغيير ينتقل بواقع سوق العمل إلى صورة تسوده السعودة وتنحسر بطالة الراغبين في العمل وتتوجه الإنتاجية المتميزة.
بقراءة متأنية لعتابية الدكتور عبد الواحد لا يملك المتابع والمهتم بدور وزارة العمل كأحد مرافق التنمية المستدامة, إلا أن يتساءل, لماذا كل هذا العناء؟ لماذا تختزل وزارة العمل دورها في هذا الدور السلطوي الذي حمل الناس عليها؟ لماذا تجعل وزارة العمل من عملية الاستقدام محور الحلول التي ترتئيها لمعالجة عملية السعودة والبطالة بصورة عامة؟ لماذا تتقمص وزارة العمل دور المشرف الاجتماعي لقطاعات الشعب ويعتقد مسؤولوها أن لهم ولاية على الناس فيقرروا من يستحق أن يخدم في بيته ومن لا يستحق؟ لماذا تسعى الوزارة إلى ذلك وتجعل في ذيل أولوياتها مهاما في صلب دورها مثل تفعيل السلامة المهنية, ووضع معايير مؤشرات إحصائيات العمل, وبناء قنوات التوظيف والتثقيف والتنوير العمالي, وتفعيل لجان العاملين وتنشيط التفتيش والرقابة على تطبيق نظام العمل؟
السعودة لا شك هم لعموم المواطنين الموظف وصاحب العمل, وكل منهم يرى معالجتها بصورة مختلفة عن الآخر, وتبنت الوزارة الرأي المبني على أن السعودة هدف للوزارة ينفذه القطاع الخاص, ووسيلتها في ذلك هي العصا والجزرة, وفي كلتا الحالتين كانت العصا منع الاستقدام والجزرة في منح الاستقدام, لذا كانت الوزارة تعالج العلة بدائها, فلا غرابة أن ينتهي استنتاج نائب الوزير أن الاستقدام في ازدياد ولم نحقق السعودة المطلوبة ولم تنل الوزارة إلا لوم اللائمين. وحتى أكون منصفاً في حق وزارة العمل أقول إن الوزارة وليت السعودة كما لو كانت فرض كفاية قامت بها فسقطت عن الباقين, والرأي أن السعودة تتمثل في منظومة فكرية ونشاط تنسيقي يجب أن يتبلور في صورة حركة شاملة تنال جزيل الاهتمام من الأمة السعودية بأسرها. وربما كان من الأجدى أن يفرد لها وزارة خاصة, فالسعودة ليست وظيفة يحوزها سعودي على حساب وافد, السعودة تكمن في تنمية الاعتزاز بالوطن أرضه وأهله والجد في اكتساب علاه وتحقيق العيش الكريم لمن ينتمي إليه, لذا يجب أن تعاد صياغة التعبير حتى يكتسب الاحترام الذي هو حري به.
في مقال سابق اقترحت أن تقوم وزارة العمل بعملية تغيير ذاتي فتتحول إلى وزارة تنمية للموارد البشرية فتتولى الدور الريادي في بناء المكون البشري للعملية الحضارية. إن عملية بناء ذلك المكون بصورة فاعلة تقتضي من الوزارة الكريمة أن تضع ابتداء صياغة لتصور جديد يمثل الحلم الذي نرتئيه لأمتنا, هذا الحلم مكون من عدة صور تتراءى لنا كأمة رائدة في بناء الحضارة الفكرية وكأمة رائدة في بناء الحضارة الإبداعية وكأمة رائدة في تحقيق الحضارة التمكينية للإنسان, وقبل ذلك أمة تنتهج العدل والحرية, أمة كما سماها الله ـ سبحانه وتعالى "خير أمة أخرجت للناس". هذه هي الرؤية التي على هذه الوزارة تمثلها. بعد ذلك تنظر الوزارة بعين الرعاية لبيئة العمل بمكوناتها المختلفة, فالمواطن حري باكتساب الحق العادل في العمل "الحق العادل هو المشروط بتحقيق المتطلبات الدنيا للعمل الموصوف" والمستقدم حري باكتساب الحق الحافظ للعمل" الحق الحافظ هو المشروط بعدم التعدي على حقوق العامل التعاقدية", وصاحب العمل حري باكتساب الحق في تعظيم الفائدة من عناصر العمل الإنتاجي ضمن أطر المحافظة الدائمة على سلامة العاملين الآنية والتراتبية والمحافظة على البيئة المحيطة. وعلى الوزارة تيسير تناغم تلك المكونات, فتناغم المواطن مع متطلبات عمل صاحب العمل يقتضي التقانة المهارية والجدارة المعرفية والوجدان المحب للعمل المتجانس في الهدف وتناغم المستقدم يقتضي الجدارة في استحقاق العمل والالتزام بمتطلبات البيئة المحيطة, وتناغم صاحب العمل يقتضي الالتزام بمنهج العدالة والعناية بالمحيط البيئي ليكون مناسباً للعمل والعيش البشري.
الرعاية المطلوبة من الوزارة يجب ألا تقتصر على المراقبة والتوجيه, بل إن الوزارة كباعث ومحرك ومنشط للعملية الحضارية يقع عليها عبء التخطيط الروي والتنفيذ السوي, فالوزارة عليها أن تهتم بما يربى عليه النشء من قيم تتسق مع الرؤية التطلعية للأمة, وعليها أن تفتعل النشاطات غير الصفية بالتنسيق مع وزارة التربية والتعليم لـتأسيس قيم الإنتاج كقيم عالية يعتنقها الطلاب في مراحل تعليمهم الأولى, فالعلم ليس معرفة فقط بل هو معرفة, ومعرفة مضمنة بسلوك وجداني. وعلى الوزارة هم آخر نرجو ألا يدوم طويلا, وهو تهيئة المجتمع بأسره لاحترام العمل الإنتاجي كوسيلة لتحقيق العيش الكريم.
لقد شبه أحدهم وزارة العمل بسيارة الفلكس "البقي" التي ركب عليها مكينة كاتربلر, فالوزارة كجهاز تنفيذي في حاجة إلى مزيد من القدرات البشرية كما ونوعا, حيث هي الآن لا تستطيع أن تحقق تطلعات قيادتها المتمثلة في الدكتور غازي القصيبي والدكتور عبد الواحد الحميد, فكلاهما مفكر ومخلص ومعارك في سبيل تحقيق أهدافها. لذا حتى تتوازن القدرات بالتطلعات نرجو أن يرتد بعض من الطاقة الهائلة لكلا الرجلين لتمكين الوزارة تنظيماً وقدرة وإعادة صياغة دورها بما يتناسب وطبيعة التحديات المتجددة.