مأساة التسعير الحكومي للمشتقات النفطية

يرى البعض أن هناك ضرورة لقيام الحكومة بتسعير بعض السلع والخدمات لأسباب عدة, منها:
1- منع التضخم أو تخفيض معدلات التضخم.
2- مساعدة المستهلكين وتوفير السلع والخدمات للغالبية الفقيرة في المجتمع.
3- منع التجار من استغلال حاجات الناس.
4- وقد يضيف البعض "تحقيق معدلات أعلى للنمو الاقتصادي".
حقيقة التسعير بين الواقع والنظريات
تبين من قصص مقال الأسبوع الماضي أن أهداف التسعير الحكومي باءت بالفشل، وكانت تكاليفها عالية جداً. هناك قصص مماثلة من كل أنحاء العالم، التي توضح أن كل حجج تدخل الحكومات في التسعير حجج واهية، وكل محاولات التسعير في أنحاء العالم كافة نتج عنها كوارث على المستويين الاقتصادي والسياسي. فليس هناك دليل واحد على أن التسعير يخفض التضخم، وليس هناك دليل واحد يفيد بوفرة السلع والخدمات وتنوعها في ظل التسعير الحكومي. وبدلا من منع التجار من استغلال الناس نجد أن التسعير الحكومي أوجد عدة طبقات تستغل الناس في القطاعين العام والخاص. أما فيما يتعلق بالنمو الاقتصادي فإن البيانات التاريخية تشير إلى أن أكبر معدلات نمو تحققت على المدى الطويل كانت في البلاد التي لا تتدخل فيها الحكومات في التسعير، وأن النمو في الدول التي تمارس التسعير الحكومي ارتبط أيضا بوجود سوق سوداء كبيرة.
مأساة التسعير في سورية
هدفت الحكومة السورية من تسعير المازوت (الديزل) بأقل من سعره العالمي بكثير مساعدة المستهلكين, وذلك عن طريق شرائه بالسعر العالمي ثم بيعه للمواطنين بسعر أقل بحيث تتكفل الحكومة بالفرق. سبّب هذا التسعير خسائر هائلة في الأموال والأرواح والممتلكات، خاصة خلال العقد الماضي. وبدلا من أن تتوافر مادة المازوت في الشتاء، اختفت من الأسواق في بعض الفترات، وتكونت سوق سوداء كان يباع فيها المازوت بسعر أعلى بكثير من السعر الحكومي. ونظرا لأن سعر المازوت في كل من لبنان وتركيا كان سبعة أضعاف السعر في سورية، تكونت عصابات لتهريبه إلى هذه الدول، التي جنت أرباحا طائلة من وراء التهريب، في الوقت الذي لم يتمكن فيه المواطن السوري من الحصول على المازوت، في شتاء سورية القارس. لنتذكر هنا أن هدف الحكومة هو توفير هذه المادة للمواطن بسعر رخيص، ولكن المواطن لم يحصل على المازوت، وإن حصل عليه فبأسعار مضاعفة. كان التسعير الحكومي سبب التهريب، ونتج عن التهريب أمور كثيرة, منها:
1- لكي يحصل المواطن على المازوت من المهربين، عليه أن يدفع سعر السوق السوداء، وهو سعر قريب من أسعار المازوت في لبنان وتركيا. المواطن لم يستفد من التسعير الحكومي.
2- بما أن المواطن يدفع سعر المازوت عاليا في السوق السوداء، فإن معدلات التضخم الحقيقية أكبر بكثير من التضخم الذي تعلنه الحكومة, والذي تبنيه على الأسعار الرسمية, التسعير الحكومي أسهم في رفع التضخم بدلا من تخفيضه.
3- نظرا لأن جزءا من الدخل يذهب لمقابلة الارتفاع الضخم في أسعار المازوت في السوق السوداء فإن كمية الأموال المتبقية للإنفاق على السلع الأخرى أقل، وكمية الادخار أقل، الأمر الذي يسهم في تخفيض معدلات النمو الاقتصادي.
4- نظرا للعائد الضخم من التهريب فقد عزف آلاف الشباب عن الدراسة، الأمر الذي سبب نكبة حقيقية في بعض المناطق السورية. العزوف عن التعليم وانخفاض مستواه لا يسهم في تخفيض معدلات النمو الاقتصادي فقط، ولكن يضمن بقاءها منخفضة فترة طويلة من الزمن.
5- نشأت مشكلة اجتماعية بسبب التهريب, وهي أنه في الوقت الذي عزف فيه عدد كبير من الشباب في بعض المناطق الحدودية عن التعليم، استمرت الفتيات في التعليم، الأمر الذي أخل بالتوازن الاجتماعي: أزواج لا يحملون حتى الشهادة الإعدادية وزوجات جامعيات. وهناك حالات تم فيه إجبار العروس على عدم إتمام تعليمها لأن "العريس" غير متعلم.
6- بما أن التهريب مخالف للقانون، فإن التسعير الحكومي للمازوت بأقل من سعر السوق نتج عنه انتشار الفساد الإداري, حيث شارك بعض رجال الشرطة والمسؤولين في التهريب، الأمر الذي عزز عمليات التهريب وسهلها وأسهم في اختفاء المازوت من الأسواق.
7- تفاقم أزمة المازوت أجبر الحكومة على التدخل عسكريا لمنع التهريب، الأمر الذي أدى إلى مقتل المئات من السوريين على الحدود السورية من المهربين ورجال الأمن.
8- إذا حسبنا تكاليف الإعانات التي دفعتها الحكومة، التي ذهبت إلى جيوب المهربين، وتكاليف الفساد الإداري والعمليات العسكرية، لوجدنا أنها تتجاوز خُمس الموازنة السورية.
الآن، عزيزي القارئ، تصور الأمر التالي: لو لم تتدخل الحكومة في التسعير، هل كان سيحصل ما حصل؟

الإمارات والسعودية

كادت كارثة اقتصادية في الإمارات في فترة الارتفاع الكبير في أسعار النفط تحصل عندما هددت محطات الوقود بإغلاق أبوابها بسبب الخسائر الضخمة التي لم تعد تتحملها. إغلاق محطات الوقود كان أكبر خطر يهدد دبي في تلك الفترة لأنه كان سيوقف عجلة الاقتصاد فيها تماما. هذه المحطات تشتري النفط بالسعر العالمي ولكن عليها بيع المشتقات بالسعر المحلي الذي تحدده الحكومة، الذي كان أقل من السعر العالمي بكثير. ورغم أنه تم رفع الأسعار إلا أن المرء تصيبه الدهشة من منظر عشرات، وأحيانا مئات الشاحنات التي تقف لفترات طويلة على جانب الطريق انتظاراً لدخول محطة الوقود. وإذا نظر المرء إلى الزاوية الأخرى من الشارع لوجد محطة وقود أخرى ليس فيها أي شاحنة. السبب هو أن بعض المحطات التي تتبع شركات الحكومة تحصل على النفط الرخيص وتبيعه بأسعار رخيصة، بينما تبيعه المحطات الأخرى بأسعار أعلى. لو حسبنا تكاليف انتظار آلاف الشاحنات يومياً لعدة ساعات للحصول على الديزل، لاكتشفنا الخسائر الهائلة الناتجة عن التسعير الحكومي. إنه لمن المؤسف أن يقوم المواطن بتحين الفرص خلال اليوم حتى يملأ سيارته بالوقود دون انتظار طويل.

أخيرا، قد يقول القارئ "وش دخّلني" أنا في السعودية، لست في سورية ولست في الإمارات. لا شك أن الرد سيكون مؤلما:
1- مشتقات النفط السعودية تهرّب يوميا إلى الدول المجاورة. هذا يعني أن المهربين يكسبون الفرق بين السعر المنخفض في السعودية والسعر العالي في الدول المجاورة. ويرى البعض أن التهريب كان أحد أسباب نقص المشتقات النفطية في بعض مناطق المملكة. هذا يعني أن بعض إعانات الحكومة تذهب إلى جيوب المهربين.

2- كمية الأموال التي تقدمها الحكومة كدعم للمشتقات النفطية كبيرة جداً, هذا يعني أن الاقتصاد ككل يتحمل عبء هذا التسعير.
3- المستفيد الأكبر من الدعم الحكومي للمشتقات النفطية، كما في الدول الأخرى، هم الأغنياء الذين يملكون عدة سيارات.
4- لا شك أن انخفاض أسعار البنزين هو من أحد الأسباب الرئيسة في الزحام، خاصة في الفترات المسائية.
5- أسهمت الإعانات في زيادة الطلب على المشتقات النفطية بشكل كبير في السنوات الماضية. ولنتذكر هنا أن هذه الكميات كان يمكن أن تصدر، الأمر الذي سيعزز إيرادات النفط، بدلا من إنقاصها عن طريق الإعانات. إن أثر زيادة الصادرات في النمو الاقتصادي أفضل بكثير من أثر زيادة الاستهلاك عن طريق الإعانات.
خلاصة الأمر، لو كان التسعير الحكومي أمرا حسنا لأمر به الإسلام! أليس كذلك؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي