الخشية في موقع العمل قاتل صامت للمؤسسات
في أول لقاء عمل مع الفريق الاستشاري الذي عينه مجلس الإدارة، كان الرئيس التنفيذي صادقا في التعبير عن حيرته وخيبة أمله في تحقيق الأهداف التي وضعها لخطة التغيير في البنك عندما تم تعيينه في منصبه منذ سنتين، قال "أنا في حيرة وتكاد جعبتي تنفد من الوسائل التي أعتقد بقدرتها على أحداث تغيير مفيد للبنك، لقد وضعنا منذ سنتين خطة استراتيجية لإحداث نقلة نوعية في أداء البنك كانت نتيجة لعدة اجتماعات عصف ذهني وورش عمل مشتركة ومتخصصة وبإشراك مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية بالبنك، حتى إننا اخترنا عددا من عملاء البنك من مختلف الفئات وعقدنا معهم ورش عمل لفهم احتياجاتهم وتطلعاتهم حول خدماتنا، ونتيجة لذلك تم صياغة رسالة البنك ووضعنا رؤية استراتيجية للبنك، وحددنا الأهداف الاستراتيجية ووضعنا البرامج الكفيلة بتحقيقها، بمعنى آخر لقد اتبعنا كما يقال الدليل، ومنذ ذلك الحين لم نستطع تفعيل أي من البرامج الموصوفة كما يجب، وبات اللوم هو ديدن الإدارة العليا، فكل يرمي الآخر بتهمة الإعاقة على الآخر، وبتنا نفقد عددا متزايدا من الموظفين بسبب الاستقالات وأصبحنا زبونا معروفا لمكتب العمل ولجان الخلافات العمالية، لقد حاولت كثيراً التعرف إلى المشكلات، فعقدت العديد من الاجتماعات الفردية والجماعية واجتمعت مع فرق العمل ومع الإدارات كل على حدة وأحياناً جميعاً وفي كل اجتماع نتعرف على عدد من المعوقات ونضع خطط تخطيها ونخصص الأدوار وأتابع التنفيذ ولكن الوضع بقي على ما هو عليه فمشكلاتي تزداد كل يوم وفي أحيان كثيرة أعزم أمري على إعفاء بعض المديرين الذين أعتقد بسلبيتهم في إحداث التغيير، ولكني أتراجع خشية إرباك العمل فليس لدي من الطاقات البشرية ما يكفي لإدارة عمل البنك، ولم نعد نغري الآخرين من المتميزين بالانضمام لفريقنا". ثم يطرق نظره في وسط طاولة الاجتماعات لثوان قبل أن يتجه بنظرة إلى قائد الفريق الاستشاري قائلاً "لقد طفح بي الكيل وأشعر بمرارة الفشل وقد صارحت رئيس مجلس الإدارة بعجزي عن تنفيذ الوعد الذي قطعته لهم وأبديت رغبتي في الانسحاب. وأرجو ألا يكون في اعتقادي أنكم لن تضيفوا جديداً عامل إحباط لجهدكم، لقد وعدت رئيس المجلس أن أكون معكم صريحا وأن افتح لكم كل الملفات، وأقدم لكم كل التسهيلات اللازمة".
خرج الفريق الاستشاري بعد ذلك اللقاء الطويل والقناعة لديهم بأن ما كان يتحدث عنه الرئيس التنفيذي ليس قصورا في قدرات الرئيس القيادية، كما كان يضن بعض أعضاء مجلس الإدارة، فالرئيس التنفيذي كان ملماً بما يتطلع له الموظفون والعملاء، وكان يستشعر المسؤولية تجاه تدني أداء البنك، ويضع البرامج والتكنيكات المناسبة لتخطي العقبات، ولكنه دائماً يواجه بمشكلات جديدة والمدير التنفيذي لا يفتقد الصدق والصراحة مع موظفيه، ولكنه غير قادر على تخطي الحواجز النفسية فيبدو أنه بمقدار ما يكون صريحاً يكون الآخرون من المديرين أكثر غموضاً. إن المشكلات الحقيقة لدى البنك في قناعة الفريق الاستشاري لا تكمن في عجز فرق العمل في البنك عن إحداث التغيير ولا في ضعف المخزون المهاري والمعرفي للجهاز الإشرافي والإداري في البنك. إن المشكلات تكمن في بيئة العمل، وللوصول لتحديد المشكلات لا بد من القيام بعملية استقصائية تشمل مقابلات الموظفين واستعراض سياسات ولوائح وإجراءات العمل وتحليل أنماط الاتصال الداخلي وعلاقات الموظفين وتقصي تنفيذ البرامج للتعرف على الأحداث الحرجةcritical incidents وتحليلها للتعرف على العوائق الفعلية.
بعد مرور أكثر من شهرين على بداية عمل الفريق الاستشاري وبعد مئات المقابلات وتحليل الأداء وإعادة تمثيل تنفيذ البرامج والخطط أصبح الفريق الاستشاري على قناعة تامة أن البنك يعاني ظاهرة بيئية تسمى "الخشية في موقع العمل fear at the workplace" وهذه الظاهرة تنشأ في بيئة العمل التي تفتقد المعايير الصحيحة لتقييم وتقويم الأداء والتي عادة ما يكون لوم الآخر هو الوسيلة للانعتاق من المسؤولية، وكون علاقات الموظفين فيما بينهم تتمحور حول قيم التبعية والوشاية والتآمر، لذا يصبح واقع العمل للموظف مرهونا بقدراته على لعب تلك الأدوار بغض النظر عن فاعليته الأدائية، وكل ما ترقى الموظف في هرم السلطة داخل المؤسسة يجد المنفعة في لعب تلك الأدوار لحيازة المكتسبات أكبر من الأداء الحقيقي للعمل، مع علمه أنه لابد له من تحقيق بعض الإنجاز في العمل، ولكن بالقدر الذي يتيح له لعب تلك الأدوار بمهارة عالية، وعندما تتعرض قدراته للعب تلك الأدوار للتحجيم أو الإلغاء من خلال برامج التطوير الإداري، يبتدع واقعا جديدا يتمثل في خلق تحديات جديدة للمؤسسة تشتت جهود الإصلاح . الموظف الذي يلعب تلك الأدوار بمهارة يظهر في كثير من الأحيان بصورة المصلح والساهر على مصالح المؤسسة والمهموم بتحقيق أهدافها، ولكنه أيضا هو من يحيك المؤامرات ويوزع التهم. وهو من يخلق الرعب في قلوب الموظفين الآخرين ليكونوا أدوات لتحقيق أغراضه، فإذا توانى أي منهم عن تنفيذ مآربه رماه بتهم التقصير وسعى لطرده من العمل شر طردة.
الموظف المستجد في المؤسسة الموبوءة بـ "الخشية في موقع العمل" يواجه بعد فترة من العمل بخيارات صعبة إما أن يقبل ذلك الواقع وينتمي إلى أي من منظومات الحماية والوشاية والتآمر وإما أن يترك العمل في المؤسسة فهو دون مظلة الحماية صيد سهل للتهم وفرص تحسين المواقع التي ربما لن تقتصر على الفصل من الوظيفة بل تتعدى ذلك إلى ما هو أسوأ. لذا تستمر المؤسسات في المعاناة فكل من فيها هم بلاؤها.
ربما تتعاظم الآن في ذهن القارئ الكريم الرغبة في معرفة كيفية علاج هذه الظاهرة أو هذا المرض الخطير الذي يضرب عدداً من المؤسسات الاقتصادية في بلادنا. العلاج ليس سهلاً ويأخذ سنوات ويتمثل في عدد من التدخلات تشمل وضع معايير تقييم الأداء الحقيقي ووضع نظام عادل للتظلم ووضع برنامج للاعتراف بالأخطاء وتحملها مؤسسياً وبرنامج تقصي ومعالجة ضغوط العمل وتبني مبدأ الشفافية في التعامل مع الموظفين لكن أهم خطوات علاج هذه الظاهرة هو الاعتراف بوجودها، فكثير من المؤسسات والشركات ممثلة في إداراتها التنفيذية ومجالس إداراتها لا تعترف بوجود أزمة بيئة عمل لديها على الرغم من تدني مستوى أدائها وخطورة ذلك على كيانها.