الفكر "الكلينتوبامي".. استمرار التخبط في سياسة الطاقة الأمريكية
استغرب البعض تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية هاليري كلينتون، زوجة الرئيس السابق بيل كلينتون، التي أكدت أن أمن الطاقة الأمريكي يتطلب مزيدا من التعاون مع دول أمريكا اللاتينية, فالعلاقات بين الولايات المتحدة وأغلب دول أمريكا اللاتينية مازالت متأزمة، بعد أن وصلت إلى طريق مسدود في عهد الرئيس الأمريكي السابق جورج وولكر بوش.
ولكن لو نظرنا إلى سياسات الطاقة في عهد الرئيس بيل كلينتون في التسعينيات، فلن نستغرب تصريحات هاليري كلينتون. فقد أرسى بيل كلينتون أسس التعاون بين الولايات المتحدة ودول أمريكا اللاتينية، وتطورت الأمور إلى عقد مؤتمر سنوي للطاقة تحت اسم "الطاقة في الأمريكيتين". وبناء على ذلك تم تشجيع شركات النفط الأمريكية على الاستثمار في دول أمريكا اللاتينية، خاصة فنزويلا، كما تم تبني سياسة مفادها تخفيف الاعتماد على واردات النفط من الدول العربية وزيادتها من دول أمريكا اللاتينية. هذه السياسات "الكلينتونية" توقفت في الفترة الثانية من عهد الرئيس جورج دبليو بوش، كما تم توقيف التعاون، وتم وقف عقد مؤتمر "الطاقة في الأمريكيتين". لذلك فإن ما قالته هاليري كلينتون أخيرا ما هو إلا تمهيد لتجديد الأفكار القديمة، وقد نرى قريبا مؤتمر "الطاقة في الأمريكيتين" وسيكون برعاية الرئيس أوباما، وربما بحضور الرئيس كلينتون.
لقد فاز أوباما بالانتخابات الأمريكية لأنه وعد بالتغيير، ولكننا نكتشف يوما بعد يوم أن التغيير هو آخر شيء يمكن أن تقوم به، وأن الإدارة الجديدة لم تتعلم من أخطاء الماضي. هذه الأخطاء أضرت بالمصالح الأمريكية، كما أنها أضرت بمصالح الدول والشركات المنتجة للنفط. كل ما على الإدارة الحالية هو أن تدرس ما حصل خلال 30 سنة الماضية لتدرك أن سياساتها الحالية في مجال الطاقة لن تؤدي إلى نتيجة إيجابية. إن سياسة الطاقة الحالية تعتمد على الفكر "الكلينتوبامي": أفكار بيل كلينتون القديمة بصيغة أكثر حداثة...وربما أكثر تطرفا.
لنعد قليلا إلى الوراء. قام الرئيس جورج بوش (الأب) بتبني سياسة تقتضي تحويل واردات الولايات المتحدة النفطية من الخليج إلى أمريكا اللاتينية بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990. وتابع كلينتون، مع أنه من حزب آخر، هذه السياسات وطورها بشكل كبير. ونجحت الولايات المتحدة في تحسين علاقاتها مع دول أمريكا اللاتينية، وزادت استثمارات الشركات الأمريكية في المنطقة بشكل ملحوظ، كما زادت واردات النفط من أمريكا اللاتينية، خاصة من فنزويلا. وفجأة فاز هوجو شافيز برئاسة فنزويلا، وبدأت العلاقات تسوء مع فوز جورج بوش (الابن) بالبيت الأبيض، وفوز الأحزاب اليسارية في شتى أنحاء أمريكا اللاتينية، وانقلبت الأمور رأساً على عقب. وبما أن التركيز على فنزويلا جاء على حساب واردات النفط من العالم العربي فإن المنطق يقتضي بالعودة إليه. ولكن سياسة الولايات المتحدة الخارجية تطلبت الابتعاد عن العالم العربي مرة أخرى والتركيز على منطقة غرب إفريقيا. وما أن بدأت الاستثمارات الأمريكية تؤتي أكلها وتم اكتشاف النفط في مناطق جديدة حتى كبرت آمال بعض الساسة الأمريكيين وتضخمت لدرجة أن البعض بدأ يتكلم علنا عن الاستغناء عن نفط الشرق الأوسط بالكامل، بحجة أن واردات النفط من الشرق الأوسط "غير آمنة" و"لا يمكن الاعتماد عليها". وفجأة تفجرت القلاقل السياسية في نيجيريا وانخفضت الإمدادات وزاد تقلب الإنتاج، وامتدت الاضطرابات السياسية إلى دول إفريقية أخرى منتجة للنفط.
أدرك صانعو القرار في واشنطن حجم المشكلة: أمريكا اللاتينية مصدر غير آمن للنفط، وغرب إفريقيا غير آمن أيضا. فجأة بدأ التفكير في استيراد النفط الروسي، وقامت روسيا بإرسال نفط مجاني إلى الولايات المتحدة لتثبت للأمريكيين إمكانية ذلك من جهة، وحسن نواياها من جهة أخرى. كل هذا كان في أيام شهر العسل الأمريكي-الروسي. إلا أن مجيء بوتين إلى سدة الحكم وإحكام سيطرته على قطاع النفط الروسي حطم آمال من أيده في البداية، ووقع الساسة الأمريكيون في مأزق كبير: كل محاولات التخلص من واردات النفط من الخليج باءت بالفشل.
في ضوء تقلب واردات النفط من فنزويلا وغرب إفريقيا وروسيا، وعدم رغبة المسؤولين في زيادة الاعتماد على النفط العربي، توغلت شركات النفط الأمريكية في خليج المكسيك بحثا عن مصادر محلية للنفط. وتفجر النفط من قاع الخليج نتيجة استثمارات ضخمة وتكنولوجيا لم يشهدها العالم من قبل ، وتولدت معه طموحات لا تحصى. إلا أن المشكلة أن أغلب هذه الاكتشافات تمت في منطقة مشهورة بأعاصيرها المدمرة، فجاء إيفان وكاترينا وريتا وآيك فعصفت بهذه الطموحات ودمرت ما اعتقده البعض أنه لا يمكن تدميره، وحصل ما لم يكن متوقعا: توقف أغلب الإنتاج الأمريكي من المنطقة.
في ظل هذه التغيرات والتقلبات سواء في السياسات الأمريكية أو إنتاج الدول التي رغبت الولايات المتحدة في الاعتماد عليها ظلت هناك بعض الثوابت التي تجاهلتها الولايات المتحدة: قيام الدول الخليجية بزيادة طاقتها الإنتاجية، ورفع إنتاجها وصادراتها. هذا النفط الذي لا يرغب بعض الساسة الأمريكيين في الاعتماد عليه هو الذي أنقذ العالم وغطى عن انخفاض الإنتاج الفنزويلي والنيجيري والعراقي، وغطى عن انخفاض إنتاج النفط الأمريكي بعد الأعاصير المدمرة.
خلاصة الأمر أن تصريحات هاليري كلينتون الأخيرة بضرورة تعزيز العلاقات مع دول أمريكا اللاتينية وتعزيز التعاون النفطي بينها وبين الولايات المتحدة ماهو إلا استمرار للسياسات القديمة، وما هو إلا عودة إلى الوراء، إلى بداية الحلقة المفرغة التي بدأت بأمريكا اللاتينية، ومرت على غرب إفريقيا وروسيا وخليج المسكيك، والآن تعود إلى أمريكا اللاتينية مرة أخرى. إذا كانت إدارة الرئيس أوباما تبحث عن التغيير، فإن كل ما عليها هو أن تختار ما اختارته قوى السوق: النفط الخليجي. النفط الخليجي هو الأكثر أمناً، والأكثر استقراراً، والأقل تكلفة. إلا أن الفكر "الكلينتوبامي"، الذي يمثله الإنفاق الضخم على مصادر الطاقة المتجددة في القانون الذي وقعه أوباما في الأسبوع الماضي، وتصريحات وزيرته كلينتون عن نفط أمريكا اللاتينية، يوضح أن هذه الإدارة لم تتعلم دروس التاريخ. وقد يكون السبب في أن التاريخ يعيد نفسه هو عدم التعلم من دروس التاريخ.