ماذا تأكل على مائدة العالم؟
كل ثقافة لا تمارس المقاومة هي ثقافة زائلة. والمقاومة هنا لا تعني بالضرورة العنف، فالعنف هو أحد سبل المقاومة، ولكنه من أضعفها، كونه ينبئ عن العجز عن التفاعل الحضاري والمنافسة الثقافية، فيستعيض عن هذا العجز بالمواجهة العنيفة والرفض القاطع. سيطرت الفكرة الخاطئة أن المقاومة تعني العنف، أو الرفض. والصحيح أنها تعني رفض التسليم الفوري، بل المحاورة والتفاعل والتأثير والتأثر.
المقاومة لا تعني توفير سياج حماية على الثقافة لمنعها من مصادمة الآخر، ومقارعته، والتأثر به أو التأثير فيه. لو حميت طفلاً من الجراثيم والميكروبات لفترة طويلة، فإنك تكون قضيت عليه، وسيكون عرضة لأول هجوم على جسمه الضعيف. أما الطفل الذي عاش حياة طبيعية، وتعامل مع الجراثيم والميكروبات بأنواعها كافة، وخاض تجارب المرض والشفاء فهو أقدر على المقاومة، والتطور الطبيعي، حيث اكتسب جسمه مناعة طبيعية فرضها الاحتكاك والتجارب السابقة والتدريب المستمر على مقاومة الجسم لما يصيبه.
في سياق حماية الثقافة من كل ما يخالفها، يقول نجيب محفوظ: لست مع حماية الثقافة ضد المنافسة. فلما قيل له إن هذا سيؤثر في الثقافة المحلية، ويجعلها فريسة سهلة للثقافات الأجنبية، قال: إن أي جزئية ضعيفة في ثقافتي تقع فريسة أمام المنافسة أقول لها مع السلامة. إن مقصد محفوظ هو أن البقاء للأصلح والأقوى حتى على المستوى الثقافي. يتوهم البعض أن المنافسة ستجعل الجميع يتولون عن الثقافة المحلية لمصلحة الأجنبية، وفي هذا تجنٍ على الثقافة، وإيمان عميق بضعفها وعدم قدرتها على المقاومة والمنافسة.
لم تكن الثقافة العربية والإسلامية في مراحل مجدها تخشى الآخر، أو تتجنب الاحتكاك معه فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ راسل ملوك العجم، واستقبل رسلهم وحاورهم واستفاد من بعض سياساتهم وأفكارهم، مثل اتخاذ الخاتم في المراسلات، وحفر الخندق، وغيرها. وفي المراحل التي تلتها في تاريخ الدولة الإسلامية شجع الخلفاء حركات الترجمة، والتبادل الثقافي مع أوروبا والهند وإفريقيا فأسهمت الحضارة الإسلامية في تطوير الفكر الفلسفي والعلمي الأوروبي، وكانت لها بصمات واضحة عليه، حتى بداية عصور الانحطاط في أواخر القرن الـ 12 الميلادي، وبدأت موجة اضطهاد المفكرين، والتضييق عليهم، وحرق كتبهم. والحضارة الإسلامية لم تتفرد بهذا بين الأمم، فقد شاع إحراق الكتب حين تضيق العقول عن استيعابها والمدارك عن التحاور معها. فحرق التتر مكتبات بغداد ومتاجر وراقيها، وأحرقت الكنيسة الكاثوليكية آلاف الكتب العلمية في العصور الوسطى في أوروبا.
حين ينشأ الجيل الجديد على الحوار ومقاومة الاختلاف عن طريق التفاعل معه، لا نبذه وإعلان العداء له، فإننا نكون بنينا مستقبلاً مشرقاً يضمن الاستمرارية لحضارتنا بجزئياتها الثقافية المتعددة. وهذا لا يعني أننا سنكون محميين من التغير والتطور، وليس هذا مطلباً عقلانياً ألبتة. ولكن هذا التطور سيكون عقلانياً يبنى على الأصول المقبولة ثقافياً لدينا للتطور، دون معارضتها، ودون التقوقع والتكور على ضعيفها وحمايته من التمرحل، بل والزوال إن لزم الأمر. ولو نظرنا للثقافة المحلية اليوم، وقارناها بالثقافة المحلية قبل جيل أو جيلين، لظهر لنا الكثير من الفروقات، وهي فروقات طبيعية من جراء التطور الاجتماعي، والثقافي، والاقتصادي فبعضها زال، وبعضها بقي دون تغيير، وبعضها تأقلم مع عوامل التغيير الكثيرة.
التفاعل مع الحضارات والثقافات الأخرى هو صورة من صور المقاومة، وهي هنا لا تعني الرفض المسبق، أو الهوس بالمحافظة على ما لدينا لمجرد أنه لدينا بل هي تحاور عقلاني للوصول لأرضية مشتركة تفيد طرفي المعادلة فالمقاومة إحدى أهم صور التفاعل الثقافي، إلا أنها قد تظهر في عدة أشكال خالية من العنف المادي. وقد ركز إدوارد سعيد على هذا الجانب اللاعنفي في ثقافة المقاومة في كتابه الشهير «الثقافة والإمبريالية». فإبراز الهوية، وصراع التحول، والمثاقفة، كلها أشكال للمقاومة الثقافية اللاعنفية، التي ينبغي التركيز عليها أثناء الحديث عن مواجهة الثقافات الأخرى.
حين تأتي لمائدة العالم، وكلٌ جلب إليها أطباقاً مختلفة، بعضها يغري بالتذوق، وبعضها يغني عنه منظره، فماذا ستفعل؟ هل ستمتنع عن الأكل؟ أم ستأكل مما جلبته أنت فقط؟ أم ستضع أطباقك على الطاولة، وتفتخر بمشاركتك في هذه المأدبة الثقافية العالمية، وتأخذ منها ما يناسبك، وتدعو الآخرين لتذوق ما لديك؟ الحل العقلاني أنك ستخوض التجربة بكاملها: يغريك بعض الأطباق فتأكله، وتحرج من آخرين فتأكل ما لا رغبة لك فيه، فيسبب لك عسر هضم وتحرص على أن تتجنبه مرة أخرى. تجد بعضها جميل الشكل، ولكنه كريه الطعم، والعكس بالعكس. تسأل وتستوعب مكونات الأطباق وفائدتها. وحين يأتي دور المأدبة المقبلة، ربما تكون أطباقك قد تأثرت بما أكلته في المرة السابقة، وتجلب أطباقاً جديدة، ليست مثل الأولى، ولكنها حصيلة التجربة، ليكون مطبخك الثقافي دائم التجدد وبالغ الثراء.