الأفكار الثورية التي قادت للكشف عن الجينات والكروموسومات
تعد فكرة الكشف عن الكروموسومات والجينات في الخلية فتحاً من فتوحات العلم الكبرى، فنحن في غاية التعقيد، في غاية الدقة، في غاية النعومة والضآلة. كانت فكرة ثورية للغاية لا تقل عن فكرة مندل بقوانينه الثلاثة في الوراثة، وبدأت من أبحاث مورجان على ذبابة الفواكه، لينال في النهاية كل من جاك مونود وفرانسوا جاكوب جائزة نوبل على كيفية عمل الجينات، عندما وصفوا (المفتاح البيولوجي) في نظام الجينات، وكان كشفاً لا يقل عن اكتشاف اللولب المزدوج على يد الثنائي (واتسون ـ كريك(.
ولكن المشكلة أمام هانت مورجان كانت في فهم ظاهرة انتقال الصفات إلى عالم الحشرات، فانتخب ذبابة ظريفة تتكاثر كل ثلاثة أسابيع )اليوم وصلت التقنية لاعتماد جراثيم تتكاثر كل 20 دقيقة وفيروسات تتضاعف كل 12 ثانية) وبالتحديق المتواصل في نواة الخلية وضع يده على بداية مفتاح انتقال الصفات، من لون العيون وشكل الجناح، فأثبت عام1910 أن الصفات لا تزيد على مواد كيماوية بعينها، موضوعة على عيدان تأخذ الألوان بشراهة في نواة الخلية، أعطاها اسم الكروموسومات.
ولكن السؤال الضخم مرة أخرى: كيف يمكن لصفات هائلة أن تنحصر في عدد بسيط من الكروموسومات؟
في عام 1935 قفز ماكس ديلبروك إلى تخمين أن صفات الوراثة تجلس في أماكن محددة على وجه الدقة من خيطان الكروموسومات الممتدة، فهي أشبه بجمل مفيدة ضائعة في خضم لغو من الكلام لا معنى له.
ولم يدر بخلدهم أن هذه الخيطان التي يجب أن تكبر ثلاثة آلاف مرة حتى ينقشع عنها الغمام، هي احتشاد مرعب لمادة متسلسلة على شكل حروف، تبلغ ثلاثة مليارات حرف، في مكتبة تضم عشرة آلاف كتاب، كل كتاب بـ 300 صفحة، كل صفحة بألف رمز غامض من دون نقطة وإشارة استفهام. وفي صفحات محددة من هذه المكتبة، كلمات واضحة صالحة للقراءة تعطي أوامر محددة للتشكيل. هذه الأمكنة أعطيت كلمة (جين) وهكذا فإن الجينات هي قطع محددة على امتداد شريط الحياة، وأعظم التحدي هو في تحديد هذا المكان، ثم إمكانية قصه أو تعويضه أو إصلاحه، وهذه كانت تحتاج بدورها إلى قفزة ثورية جديدة، فلا المقص موجود ولا المكان محدد ولا العدد معروف! كانت ثلاثة تحديات يأخذ بعضها برقاب بعض، كل واحدة تشكل معادلة رياضية صعبة الحل، كانت الرحلة طويلة والزاد قليل. ولكن رحلة العلم لا تتوقف.
ففي عام1944 استطاع الكندي أوسوالد أفيري OSWALD AVERY أن يغطس أكثر إلى عمق أوقيانوس المادة الوراثية فاكتشف أنها مادة حمضية من أربعة أحماض فقط مجتمعة على نسق مجهول، ولكن هل الأحماض (الأدينين والسيتوزين والثيمين والجوانين) مرصوفة بطريقة عشوائية أو أن لها نسقاً ما؟ وإذا كان فما هو تحديداً؟ وللإجابة عن هذا السؤال أعمل كل من الكيميائي أرفين شارجافERWIN CHARGAFF والفيزيائي شرودنجر ERWIN SCHROEDINGER صاحب نظرية الأمواج الكمية، التي نال عليها جائزة نوبل عام1933 م، والذي شغف بعلم البيولوجيا أيضاً كفيلسوف موسوعي؛ فتوصل الأول1950 م إلى أن اجتماع الأحماض يمشي على نسق (زوجي)، فلا يجتمع السيتوزين إلا مع الجوانين، كما لا يجتمع حمض الأدنين إلا مع التيمين، وهما قاعدة تشكيل الحامض النووي في نواة الخلية، أما شرودنجر الذي أعمل دماغه هذه المرة خارج حقل الفيزياء فقد حلم بـ )شفرة) تفاهم بحيث يمكن لهذه الأحماض الأربعة أن توحي إلى الخلية بتركيب مئات التراكيب المعقدة.
ولكن ما هي؟ وكيف يمكن لأربعة أحماض الإيعاز والتفاهم مع 20 حامضاً نووياً تسبح في دمنا بتشكيل كل تركيب أخلاط جسدنا؟