هل انخفاض أسعار النفط من صالح الدول المستهلكة؟ (2 من 2)
تبين في المقال الماضي أنه رغم بعض المنافع القصيرة المدى لانخفاض أسعار النفط، إلا أن أسعار النفط المنخفضة ليست من مصلحة الدول المستهلكة، كما أنها تتعارض مع أسس سياسات الطاقة والبيئة والسياسة الخارجية لهذه الدول. وتم ذكر نتيجتين لانخفاض أسعار النفط، الأولى زيادة اعتماد الدول المستهلكة على النفط على حساب مصادر الطاقة الأخرى، وهو أمر يتعارض مع أهداف هذه الدول الرامية إلى تنويع مصادر الطاقة. النتيجة الثانية هي زيادة اعتماد الدول المستهلكة على واردات النفط، وهو أمر يتعارض أيضا مع سياسات هذه الدول الرامية إلى تخفيف الاعتماد على النفط المستورد. وسيتم في مقال اليوم ذكر النتائج المتبقية لأسعار النفط المنخفضة.
3- انخفاض مستويات الكفاءة وزيادة التلوث
من أهم أهداف سياسات الطاقة في الدول المستهلكة ترشيد الاستهلاك، ورفع مستويات الكفاءة في الاستهلاك، وتخفيض التلوث الناتج عن احتراق الموارد الكربونية. وتشير البيانات التاريخية من دول مختلفة إلى أن هناك علاقة عكسية بين أسعار النفط والاستهلاك، وعلاقة طردية بين أسعار النفط ومستويات الكفاءة في الاستهلاك، وعلاقة عكسية بين أسعار النفط ومستويات التلوث. فقد نتج عن ارتفاع أسعار النفط المستمر في السبعينيات تحسن كفاءة محركات السيارات الصغيرة في حرق الوقود بمقدار 2.9 في المائة سنوياً بين عامي 1976 و1990, ولكن الكفاءة انخفضت بعد ذلك إلى 0.1 في المائة سنوياً مع انخفاض أسعار النفط. أما كفاءة محركات سيارات النقل الصغيرة في استخدام الوقود فلم تتحسن منذ عام 1982. ويلاحظ أن التحسن في كفاءة السيارات الصغيرة توقف نوعا ما مع انخفاض أسعار النفط في أواخر التسعينيات. ويذكر أن هناك علاقة عكسية بين عدد الأميال التي يسافرها الأمريكيون وأسعار النفط, حيث زادات في فترات انخفاض الأسعار، وانخفضت في فترات ارتفاع الأسعار. وتشير البيانات إلى تباطؤ نمو عدد الأميال التي يسافرها الأمريكيون بين عامي 2005 و2007، ثم انخفاضها بشكل مذهل منذ نهاية عام 2007 وحتى الآن.
هذا يؤكد أن أسعار النفط المنخفضة ليس من مصلحة الدول المستهلكة لأنها تزيد الاستهلاك (وقد تؤدي إلى التبذير)، وتخفض مستويات الكفاءة في الاستخدام، وترفع من مستويات التلوث. وما يؤكد هذه الفكرة أيضا أن هناك علاقة طردية بين مقدار اهتمام حكومات الدول المستهلكة بهذه الأمور والضرائب المفروضة على المشتقات النفطية. فكلما اهتمت الحكومة بالأثر البيئي الناتج عن الغازات المنبعثة من احتراق المشتقات النفطية، رفعت الضرائب على المشتقات النفطية، الأمر الذي يعني أنها ترغب في أسعار مرتفعة، وليس في أسعار منخفضة.
4 ـ انخفاض إنتاج النفط المحلي
إذا نظرنا إلى تكاليف إنتاج النفط حول العالم لوجدنا أن أعلى التكاليف هي في الدول المستهلكة، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه على الرغم من أن الولايات المتحدة وبريطانيا والصين من أكبر الدول المستوردة للنفط في العالم، إلا أنها من أكبر الدول المنتجة أيضا، والولايات المتحدة تحتل المركز الثالث عالميا بعد روسيا والسعودية.
ارتفاع تكاليف الإنتاج في الدول المستهلكة يعني أن انخفاض أسعار النفط ليس في مصلحتها لأن آبارها ستكون أول الآبار التي ستتوقف عن الإنتاج مع انخفاض أسعار النفط. إن انخفاض إنتاج النفط في هذه الدول يؤدي إلى خسائر مالية ضخمة، وتسريح عشرات الألوف من العمال. كما ينتج عنه كل ما لا ترغبه الدول المستهلكة، والذي ذكر سابقا: انخفاض الإنتاج سيجبر هذه الدول على زيادة اعتمادها على النفط المستورد. المشكلة أن انخفاض الأسعار سيؤدي إلى تركيز الإنتاج في دول أقل، الذي يعني أيضا زيادة تركيز الاستيراد من عدد قليل من الدول، وهذا يتنافى مع سياسات الدول المستهلكة والرامية إلى تنويع مصادر الواردات لتعزيز أمن الطاقة، والأمن الاقتصادي، والأمن القومي.
و تشير البيانات التاريخية إلى انخفاض إنتاج النفط الأمريكي بأكثر من مليون برميل يوميا بين عامي 1985 و1989 بسبب انخفاض أسعار النفط في منتصف الثمانينيات. كما انخفض إنتاج بحر الشمال بنحو 30 في المائة خلال الفترة نفسها. وتكرر الانخفاض في عامي 1998 و1999، الأمر الذي جعل بعض الخبراء يعتقدون أن هذا الانخفاض هو الذي سبب الارتفاع الكبير في أسعار النفط فيما بعد.
5 ـ خسارة مشاريع الطاقة البديلة والمتجددة
تهدف الدول المستهلكة إلى تعزيز أمن الطاقة، وأمنها القومي والاقتصادي والبيئي عن طريق تنويع مصادر الطاقة من جهة، وتطوير مصادر الطاقة البديلة، خاصة المتجددة منها. وقد أثبت التاريخ أن أكبر مستفيد من الارتفاع الكبير في أسعار النفط هي مشاريع الطاقة المتجددة، وأنها هي أيضا أكبر الخاسرين من انخفاض أسعار النفط. لذلك فإن أحد أسباب لجوء حكومات الدول المستهلكة إلى فرض ضرائب عالية على المشتقات النفطية هو استمرار نمو الطاقة البديلة، حيث تستخدم بعض الحكومات عوائد هذه الضرائب لدعم مشاريع الطاقة البديلة. مشكلة هذه الدول أن انخفاض أسعار النفط يجعل الدول المنافسة التي تفرض ضرائب أقل على المشتقات النفطية أكثر منافسة في الأسواق العالمية بسبب انخفاض التكاليف. هذا يعني أن تكاليف انخفاض أسعار النفط في الدول المستهلكة أكبر بكثير مما يتوقعه البعض لأنه يؤثر في النهاية في قدرتها التنافسية في الأسواق العالمية، ولا يقتصر على الأمور التي ذكرت أعلاه.
خلاصة الأمر، انحياز السعر عن مستوى معين يضر بالأطراف كلها. هناك سعر يستفيد منه الجميع، وهو السعر الذي يضمن عائدا مجزيا للاستثمار في صناعة النفط، ويضمن نمو مصادر الطاقة الأخرى، ويضمن النمو الاقتصادي في كل من الدول المنتجة والمستهلكة. لو لم تكن هناك ضرائب في الدول المستهلكة وقوانين بيئية، ولو لم تتدخل دول "أوبك" في الإنتاج، ولو لم تتدخل السياسة في موضوعات النفط، لكان سعر السوق هو السعر الذي يرضي جميع الأطراف.