أمريكا وتجربة زمبابوي
مما لا شك فيه أن الجهود والقرارات التي تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية لإصلاح وإعادة الثقة في الاقتصاد الأمريكي هي جريئة وسريعة وفاعلة على المستوى المتوسط وتستحق كل الاحترام. ولكن الخوف من تداعيات هذه القرارات والتغييرات القانونية لإدارة الاقتصاد هو ما يخيف المراقبين. إن أهم ما تسعى إليه الإدارة حاليا هو إزالة الأصول الفاسدة من حسابات البنوك وتوفير واستقرار السيولة في الأسواق (بما يسمى سياسة تيسير وتوفير السيولة بكميات مناسبة) والتي في النهاية سوف تؤثر إيجابا في باقي القطاعات الاقتصادية، إضافة إلى مزيد من الدعم الحكومي. هنالك حالة من الهيجان وعدم التأكد تغيم على رؤية المستثمرين، ومن المعلوم أن "حالة عدم اليقين هي العدو للاستقرار والنمو". لقد أدت استثمارات البنوك حول العالم في قطاع العقار الأمريكي إلى خسائر تجاوزت التريليون دولار (حسب آخر إحصائية) وتلك ليست النهاية فعدم التدخل الحكومي السريع في إنقاذ البنوك ربما يؤدي إلى سقوط مزيد من البنوك.
دائما ما نسمع من الإداريين الأمريكيين أن القرارات السريعة لإنقاذ القطاع المالي هي ما يجنب الاقتصاد الأمريكي مرحلة "الكساد العظيم" كما رأينا من التجربة اليابانية, حيث أدى بطء القرارات اليابانية وعدم إنقاذ القطاع المصرفي إلى مرحلة من عشر سنوات من الكساد. والجدير بالذكر هنا اختلاف العزم الأمريكي لمعالجة الأزمة عن اليابان, حيث إن هنالك تحالفا بين كل من الاحتياطي الأمريكي والخزانة وقيادة أوباما الإدارية لحل الأزمة وتقييم مخاطر عمل القليل من القرارات بدلا من عمل الكثير.
#2#
تدخلت الحكومة الأمريكية ممثلة بترتيب وتنسيق بين الخزانة والاحتياطي بضخ المبالغ المهولة لإعادة استقرار أسواق المال وإقراض ما يحتاج إلى تمويل من المِؤسسات الأمريكية (فقط التي يمثل سقوطها ضررا كبيرا للأسواق كما حصل في حالة البنك الاستثماري: مريلينش). وأدت هذه العملية إلى تضخم مهول لميزانية البنك الفيدرالي الاحتياطي ووصلت في إحدى المراحل إلى 2200 مليار مرتفعة بنسبة 250 في المائة مقارنة بعام 2006 التي كانت 850 مليار دولار. وهذه ليست النهاية كما صرح الرئيس الجديد للخزانة: تيموثي غاثنر, ربما تصل 3500 مليار في خلال الأشهر الثلاثة المقبلة وهي نسبة تمثل 25 في المائة من إجمالي الناتج القومي الأمريكي البالغ 14000 مليار دولار. والحاصل هنا أن الخزانة الأمريكية تطبع النقد (الدولارات) والاحتياطي الفيدرالي يسد فيها عجز الميزانية لديه. ولا تستطيع الخزانة حاليا إصدار سندات الدين الحكومية لتمويل العجز لأن ذلك يعاكس سياسة توفير السيولة, وعلى النقيض, فلقد أعلن الفيدرالي نيته شراء السندات طويلة الأجل لدعم السيولة وتخفيض أسعار الفائدة طويلة الأجل. ويجب أن نعلم أن الدولار ليس مدعوما بالذهب، كما كان قبل عام 1971 عندما فك الرئيس نيكسون تقييم الدولار بالذهب, مع العلم أن ما يملكه الاحتياطي الأمريكي من الذهب حاليا هو 8.133 طن, يمثل أكثر من 10 في المائة من ذهب العالم أجمع.
كان هناك تصريح من حاكم البنك المركزي في زمبابوي قبل فترة بسيطة ينوه بأن ما تفعله الولايات المتحدة هو فكرة كانت متأصلة من أزمة زمبابوي قبل خمس سنوات والتي كانت أزمة بنكية أيضا، حيث كانت البنوك تعاني مشكلات في السيولة, فتدخل البنك المركزي في زمبابوي بضخ السيولة في البنوك لدعمها, ولكن انتقد البنك المركزي من كل طرف في العالم سياسيا واقتصاديا على ذلك. والنتيجة لقرار زمبابوي انعدام قيمة العملة وارتفاع نسبة التضخم في الدولة إلى 231.000.000 في المائة نعم هذا ليس خطأ مطبعيا, ارتفع التضخم إلى 231 مليون في المائة. ولكن المفارقة هنا أن ما تم طباعته في أمريكا من تريليوني دولار إلى الآن هو ما نسبته 14 في المائة من اقتصاد حجمه 14 تريليونا.
دون أدنى شك هناك أزمة حتى في التجارة العالمية حاليا, مما يذكرنا بأزمة عام 1930 عندما كانت أمريكا المصدر الأول في العالم وسحبت ما يقارب أكثر من 50 في المائة من ذهب العالم, فاختلت الموازين التجارية والنتيجة كانت الحروب. أما الآن فالصين هي المصدر الأول في العالم ويجب عليها دعم أمريكا (شريكها التجاري الأول) لحل مشكلاتها والخروج من الأزمة, وإلا النتائج ستكون وخيمة على الصين فيجب أن ننتبه لتصريح أوباما عندما دعا الشعب الأمريكي لشراء البضائع والمنتجات الأمريكية لدعم الاقتصاد, ذلك الأمر الذي أزعج جميع شركاء أمريكا التجاريين. وفي تصوري هنا إذا نجحت أمريكا من خروجها من الأزمة بهذه الخطط السيادية ستبقى آثارها السلبية في بعض البلدان الأخرى كأوروبا والصين واليابان في رأيي لعقد من الزمان.
ويبقى الخوف من مخاطر التضخم والديون، إضافة إلى المخاطر الائتمانية التي أضيفت لميزان الفيدرالي ما نخشاه على استقرار الاقتصاد الأمريكي. فكما كانت القرارات والحلول للخروج من الأزمة سريعة يجب أن تتم بالسرعة نفسها قرارات للسيطرة على مظاهر التضخم (كما تدلنا تجربة زمبابوي) وإرجاع موازين الحسابات في البنك الاحتياطي الفيدرالي إلى المستوى الطبيعي.