سؤال الفقر وشارع واردن رود
شارع واردن رود في مومباي يفصل بين الحي الراقي الذي يحمل هذا الاسم وبين حي درافي الفقير المكتظ بالسكان، تكاد تكون هذه المفارقة بين أحياء الثراء الفاحش وملاصقتها لأحياء الفقر المدقع ظاهرة عالمية تراها في كل أرجاء الكون، لكن الفرق يتضخم كثيراً في البلدان الناشئة، ولا سيما تلك النامية بسرعة التي تسجل أرقاماً مرتفعة في نمو ناتجها الاقتصادي، في البرازيل مثلاً تتضخم الظاهرة لتصل إلى حد أنك لا تصدق أنك تعيش في المدينة نفسها، بل إن جدرانا جديدة بدأت تظهر في ساوباولو وريودي جانيرو تفصل الأغنياء عن الفقراء من خلال أسوار عالية وبوابات كهربائية، لا تختلف في أجزاء منها عن حائط الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية أو ذلك الجدار البائد في برلين، الفرق أن الجدر السياسية ترسم حدوداً سياسية، وهذه الجدر الجديدة بحجمها الأصغر ترسم حدوداً اجتماعية واقتصادية جديدة، وإذا تأملت عالمنا العربي فليس من الصعوبة أن تذكر أمثلة مشابهة بين أحياء راقية وأخرى فقيرة لا يفصل بينهما سوى شارع لا يتعدى عرضة عشرات الأمتار، ذلك أن التجاور بين أحياء الأغنياء والمفلسين ليس إلا تعبيراً سطحياً للمشكلة الأعمق التي تكمن في أن الحراك بين ضفتي الشارع عادة ما يكون بطيئاً، بل مكرساً للتفاوت الطبقي الذي يستمر لعشرات بل لمئات السنين..
والسؤال الجوهري لماذا يستمر الفقراء في فقرهم المدقع، بينما يزداد الأغنياء ثروة ونفوذاً؟؟، سؤال مازال مرفوعاً على الرغم من عشرات الأطروحات والمبادرات التي حاولت لآلاف السنين أن تردم الفجوة بين الأغنياء والفقراء وألا يستمر تداول المال بين الأغنياء فقط، إنه سؤال الفقر الكبير؟!... هنا لابد من الإشارة إلى محاولة جادة جديدة من ضمن محولات الإجابة على هذا السؤال الذي بقي معنا لقرون وسيستمر في الغالب معنا لأجيال مقبلة، دون أن نقلل من المبادرات والأجوبة التي برزت في العقود الأخيرة كمبادرة محمد يونس في بنغلاديش من خلال بنك غرامين ومثيلاتها للإقراض الصغير وتحويل المحتاج إلى منتج، وهي مبادرات مهمة وناجحة كونها خرجت من مجتمعات فقيرة كحلول مبتكرة بدلا من نسخ الحلول الغربية التي ركزت على حلول ووصفات البنك الدولي الكارثية أو من خلال المساعدات الحكومية التي تهدف إلى المساواة في توزيع الثروة الوطنية، والتي تأتي ضمن "حزمة الوصفات" التي تؤدي في النهاية إلى الأوضاع الحالية الناطقة بأن هذه السياسات أفقرت الدول المتبعة لهذه السياسة الفاشلة فضلاً عن أنها أدت إلى تفاقم الفقر في كل الدول والمجتمعات التي سارت على درب البنك الدولي وشقيقه صندوق النقد الدولي.
تكمن المشكلة في استيطان الفقر في جانب مهم ركز عليه البروفسور سي . كي. براهلاد وهو أستاذ الاستراتيجيات والأعمال في جامعة ميتشغان من خلال سلسلة من الأعمال والدراسات التي نشرها لسنوات ويشكل طريق واردن رود مثالاً استخدمه في دراساته، لقد درس براه لاد جانباً مهماً للإجابة على سؤال "الفقر المستوطن" ووجد أن الفقراء في ضفة الشارع يدفعون تكلفة أكثر بكثير من الأغنياء للحصول على حاجاتهم اليومية مما يعني أنهم يمضون بقية حياتهم لسداد الفواتير والتكلفة المرتفعة للسلعة ذاتها التي يحصل عليها الأغنياء بتكلفة أقل من المعدمين بكثير..
خذ مثلاً تكلفة الإقراض على الفقير مقابل الغني ...، الفقير في درافي (المنطقة الفقيرة) يقترض بنسبة سنوية تبلغ 600 إلى ألف في المائة أي بأفحش أنواع الربا (هل يذكركم هذا بسوق الجفرة؟) بينما يقترض الغني بنسبة تراوح بين 12 و18 في المائة، وبمعادلة بسيطة تكتشف أن الفقير يدفع 53 ضعفاً للحصول على التمويل نفسه الذي يحصل عليه جاره الساكن في ضفة الشارع الآخر..!
أما مياه الشرب فتكلف الفقير 112 سنتاً وتكلف الغني ثلاثة سنتات، وبعبارة أخرى تجد الفقراء يدفعون 37 ضعفاً للحصول على المتر المكعب نفسه من المياه. وتسرد الدراسات المتتالية الفارق الهائل ذاته في خدمات أخرى وسلع عديدة، تؤدي النتيجة نفسها، إن الفقراء يدفعون أضعاف أضعاف ما يدفعه الأغنياء لكي يعيشوا على الكفاف، أما أسباب هذه التكلفة المرتفعة فجزء منة مرتبط بأمراض الفقر الاجتماعية التي تتضاعف بغياب حماية الدولة لهذه "الغيتوات" الهائلة التي ينتشر فيها "الفتوات" أو "الزعران الذين يمارسون بسط الحماية بفرض عمولات تقديم الخدمات والسلع بل والأمن، إضافة إلى غياب بدائل حقيقية تناسب هذه الفئة العريضة من السكان.
لقد أضاف سي .كي. براهلاد إلى عالم الاقتصاد والتنمية نظرة جديدة مفادها أن أحد أهم وسائل تحطيم سلاسل الفقر في العالم هو تقديم سلع وخدمات للفقراء بتكلفة مشابهة لتلك المقدمة للأغنياء، أي لو أُقرض الفقير بشروط قروض الأغنياء نفسها وتمتع بسعر مشابه لمأكله ومشربه ومسكنه.. لاستطعنا أن نحقق عدالة اجتماعية جزئية، ترفع كاهل الدين والإدقاع عن ملايين البشر، ومن هذا المنطلق خلص في أعمالة إلى أن الفقراء يمثلون الثلث الأخير في أي مجتمع وأن هذا الثلث هو الأكبر، وأنه مجال هائل للإبداع وتطوير منتجات رخيصة لأكبر سوق بشري مهمل، وأن السياسات الصحيحة للمؤسسات الدولية والحكومات والقطاع الخاص والهيئات المدنية والخيرية يمكن أن تساهم في حل جزء كبيرا من المشكلة من خلال تقديم الخدمات والسلع ذاتها للفقراء، وبسعر قريب أو ربما مساو للأغنياء !!
بساطة الفكرة ومنطقية الطرح وتوالي النموذج السائد جعل من شارع واردن رود رمزاً للدخول في معالجة جديدة لمشكلة الفقر، والوصول إلى أكبر شريحة مهملة من الناس، تحفيزاً للابتكار، ورداً بسيطاً ومباشراً لسؤال الفقر الملح... الأفكار المثيرة للدهشة تتسم بالوضوح والبساطة والقدرة على التنفيذ بسرعة في واقع الحياة .. ولعل لهذا الحديث بقية حيث نستعرض نماذج مبهرة ومطبقة لهذا الأسلوب في أنحاء العالم خلال السنوات الماضية.