الطفرة تلك الفلتة

كتب رائد جراحة الأوعية الدموية (الكسيس كاريل) قبل أكثر من نصف قرن في كتابه (الإنسان ذلك المجهول MAN THE UNKNOWEN) يصف غرابة الإنسان (كل واحد منا مكون من موكب من الأشباح يسير في وسطها حقيقة مجهولة) وأولئك الذين درسوا الإنسان (ضلوا طريقهم في قلب دغل سحري لا تكف أشجاره عن تغيير أماكنها وأحجامها).
أما اليوم فقد تحدث البروفيسور (والتر جيلبرت) من جامعة (هارفارد) عن مشروع (الجينوم البشري) فوصف المشروع: (أنه سوف يقع في أيدينا ما لا يحصى من الفوائد. سوف يشق العلماء الطريق إلى الحجر المقدس وكنز البيولوجيا الغارق في بحر لجي. سوف نضع أيدينا على الكأس المقدسة، فنتجرع منها دهاقاً في أدوية شافية بغير نفاد. إن ما نعرف عن الأمراض الوراثية أنها تزيد على 800 مرض، والأمل كبير بالتخلص منها، بالإضافة إلى التخلص من الاستعداد لأمراض شتى من احتشاء القلب والسكري وسواه، إننا نأمل قهر السرطان وأمراض الاستقلاب والإيدز، ونطمع في زيادة عمر البشر قرونا)
هذه الكلمات سهل نطقها صعب تنفيذها، كما يقول الألمان (Leicht gesagt als getan) فقد برز ودفعة واحدة ثلاث مفاجآت لم تكن في حساب العلماء، وفاتت (جيلبرت) العالم المتبجح؟
فبعد كشف كامل الخريطة الوراثية عند الإنسان تلك التي حققها سابقا لوحده الجني (كريج فينتر)، ثم أكمل المشروع جماعة الجينوم البشري في لوس آلاموس.
فقد ظهر أمامهم أنهم سيضعون أيديهم على جبل من المعلومات يحتاج إلى الترتيب، في شبكة مخيفة من الكلمات المتقاطعة والألغاز المستعصية، يكفي أن نعرف أن تنظيم الضغط وحده يتشابك فيه مالا يقل عن 200 جين.
وأن كل فتح معرفي يقود إلى غموض أشد باتساع زاوية المعرفة، كما هو مبدأ سقراط؟
والأمر الثالث أن هكسلي وفرويد راهنوا على فك مغاليق النفس مع انطلاق علم (الفسيولوجيا) فتبين أن آخر ما يتوقع الإنسان لمعرفة النفس هو علم الغرائز وانهارت المدرسة البيولوجية، كما تداعت بعدها مدرسة تحليل النفس السلوكي.
ولكن كيف تطورت هذه الرحلة المثيرة ؟
كانت المفاجأة الأولى في ظاهرة (الطفرة) ففي عام 1901 وعام 1926 و1947 و1961 م على التوالي أصيب الهولندي (هوجو دي فريس) بالذهول من ظاهرة تغير الصفات؛ فكان أول من أعطاها مصطلح (الطفرة MUTATION) ليثبت (هيرمان موللر)، أنها تحدث بتعريض الخلايا للأشعة السينية.
ثم تقدمت (باربرا مك كلينتوك) بدراستها على نبات الذرة، فعرفت أن المواد الوراثية ليست قطعاً جامدة في مكانها مثل حبات اللؤلؤ على جيد حسناء؛ بل تقفز برشاقة من حين لآخر، مغيرة موضعها، ومعها قدر الكائن بنقله طوراً بعد طور.
وبذلك عرفنا أن الخلق ليس مستقرا، بل هو في حالة زيادة ..
يزيد في الخلق ما يشاء...إن الله على كل شيء قدير .. ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم..

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي