من العنقري إلى المنقور !

إبراهيم العنقري وناصر المنقور، علمان بارزان من أعلام الإدارة والدبلوماسية والسياسة طيلة عقود. دَرَسا سوياً في مكة المكرمة في مطلع أربعينيات القرن الميلادي الماضي، وسَمَت بهما النفوس لمواصلة الدراسة في مصر، حيثُ ركبا، بحزم وعزم، على متن الباخرة "تالودي" ليحطا الركاب في آداب جامعة فؤاد الأول، لدراسة اللغة العربية وآدابها، على يد عدد من فطاحلة الأدب ورموز التنوير في الوطن العربي، من أمثال طه حسين وأمين الخولي وأحمد أمين وسهير القلماوي وآخرين. وبعد رحلة مضنية عادا إلى المملكة، وانخرطا في قطاع التعليم وعملا مع الأمير (الملك) فهد بن عبدالعزيز، الذي وليَ وزارة المعارف عام 1953م، وعملا معه بكل إخلاص وتفانٍ، مما ليس هنا مجال بسطه.
افترق العنقري والمنقور عن زمالة وزارة المعارف في مطلع الستينيات، ونأت بهما أسباب العمل وخدمة الوطن، خاصةً المنقور، الذي غادر البلاد عام 1964 سفيراً في أقصى الشرق "طوكيو" وتنقل بعد ذلك سفيراً في أكثر من دولة طيلة ثلاثة عقود! غير أن هذا الافتراق لم يُلغ أو يقض على صداقة متينة وعميقة وطويلة بينهما، يظللها حبٌ وفاء. وقبل أيام أمدني الأستاذ مازن بن إبراهيم العنقري، مشكوراً، برسالة مؤرخة في 11/7/1417هـ (1997م) من والده إلى صديقه ورفيق دربه ناصر المنقور. ولأني لا أرغب في أن أشرح ما ورد في الرسالة، التي تنضحُ نبلاً ووفاءً وصدقاً غامراً فيما بينهما، فإني أوردها كما كتبها الشيخ العنقري بخط يده الجميل. يقول العنقري:
( أخي العزيز أبو أحمد
السلام عليك وطبت..
كنتُ أبحث في أوراقي القديمة منذ يومين من أجل تمزيق ما ليس مفيداً منها.. ووجدتُ بينها ما يُشير إلى مبلغ أقرضتني إياه منذُ أكثر من ثلاثين عاماً، وقدره أربعمائة جنيه مصري، ولقد نسيتُ تسديده، وما أنسانيه إلاّ الشيطان. وبرفق هذه الرسالة الأخوية المضيئة والمليئة بالشكر أبعثُ لكم ما أعتقدُ "مجتهداً" أنه يساوي ذلك المبلغ وقدره 5.000 ريال. وأنا أعلم أن هذا المبلغ بسيط بالنسبة لي ولك، ولكني حرصتُ على أن لا يبقى عليّ دين في هذه الحياة الدنيا، التي أرجو أن أنتقل منها - متى شاء الله - إلى رحاب ربٍ عفو غفور رحيم، وأنا خفيفٌ لا عليّ ولا ليا، وبقدر ما أستطيع.
والله أسأل أن يجعلني وإياك ممن تشملهم رحمته التي وسعت كل شيء. ولك مني في البدء والختام خالص التحية وأصدق الود. التوقيع) .
هذه رسالة العنقري، الذي نسيَ تسديد مبلغ قيمته 400 جنيه، فتذكر ذلك بعد ثلاثين عاماً، بعد أن تنقّل المنقور في الوزارات والسفارات، واستقر في منزله الدافئ في لندن! وهي كذلك للعنقري، الذي خطّها بعد أن ودّع الوزارات التي تولاها، وأصبح المستشار المؤتمن وكاتم الأسرار وحامل الرسائل الملكية، أي أن تسديد المبلغ جاء في وقتٍ، وكما عبّر عنه العنقري، بحيث لايمثل المبلغ أيّ قيمة للمقترض أو القارض! لكنه الوفاء والإخلاص والنُبل، ولا نعلم ما موقف المنقور حينما تلقى الرسالة؟! لكنه حتماً سيبتسمُ كثيراً، وسيعتب على أرشيف صديقه الوفي، الذي ذكّره بذلك المبلغ، فالمنقور يُقرض أصدقاءه ومحبيه، ثم يبدأ في المماطلة في استلام المبلغ! وله فلسفة في ذلك وهي أن بقاء المبلغ عند الصديق أحفظ له! وفي هذا الصدد، يذكر الدكتور عبدالعزيز الخويطر أنه حينما عاد إلى المملكة بعد حصوله على شهادة الدكتوراة، وباشر عمله أستاذاً في جامعة الملك سعود عام 1960، بدأ في البحث عن منزلٍ يؤويه، وكان حريصاً على الحصول على فيلا من فلل عرين الواقعة على شارع الأحساء في الملز، وهي تلك الفلل المخصّصة لموظفي الحكومة، وبعد جهدٍ جهيد وبحثٍ شاق، حصل الخويطر على فيلا جميلة تليق به، كأستاذٍ جامعي، لكن واجهته مشكلة في تأمين المبلغ المطلوب والبالغ 26 ألف ريال، وكان راتب الخويطر وقتها ( 1800) ريال فقط! فلما علم المنقور أقرض الخويطر مبلغ عشرين ألف ريال. وبعد حين، وعندما كان بمقدور الخويطر رد المبلغ، فإنه كلما جاء إليه لتسديد المبلغ رجاه المنقور وبكل لطف أن يُبقي المبلغ لديه، بحجة أن بقاءه عنده أحفظ له! قائلاً له: إنك إذا أعطيتني المبلغ سهُل عليّ صرفه، أما وهو عندك فهو في حرز مكين! وبقي المنقور يُسوّف في أخذ المبلغ مدة ثماني سنوات إلى أن أقسم عليه الخويطر أن يأخذ ماله! فكان ما كان. وبعد حين اتضح للخويطر أن المبلغ الكبير الذي أقرضه إياه المنقور، كان المنقور قد استدانه من أحد الصيارفة الكبار!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي