وقت للتواضع

في الصيف الماضي دخلت مبنى أحد البنوك الاستثمارية العالمية في لندن، كان المبنى عبارة عن مبنى تاريخي لجريدة "إنجليزية" ذائعة الصيت في شارع الصحافة "فليت ستريت"، المبنى يمثل مرحلة غزو وعلو الصحافة الإنجليزية في القرن الماضي، حيث كان هذا المبني يسقط حكومات ويحرض بريطانيي المستعمرة على سحق هذا "التمرد" في الهند، أو ذاك الثائر في وجه الظلم في "مالطا"، وبعد سقوط هيبة الصحافة "المحترمة" في الثمانينيات على يد غزوات" ماردوخ" الكريه، استولى هذا البنك على المبنى الرائع و حوله إلى مدخل أو "لوبي" لمجموعة من المباني حوله لكي يعطي الانطباع الصحيح والقوي على أهمية البنك وغزوه.

حينما دخلت البنك كانت إجراءات الدخول الأمنية تتجاوز تلك التي تفرضها القصور الرئاسية أو البلاطات الملكية.. حتى بطاقة زائر يجب أخذ صورة منها، تماما كما تستخرج رخصة قيادة أو سجلا مدنيا!
البهو المجدد مصمم على طريقة المعابد الرومانية مخلوطا بشيء من روح الكنائس القوطية، السقف أعيد طلاؤه وزخرفته لكي يشعرك أنك تدلج إلى إحدى قاعات القصور الأوروبية الإقطاعية.
وصل الانبطاع!؟ وبلغت الرسالة!!
هذا إذاً المعبد الجديد.. هذا المبنى بتصميمه وهيبته يعكس تماما هدف ملاكه.. إنهم الأباطرة الجدد، أو سمهم إن شئت "كهنة المرحلة الراهنة".. بل إنهم كبار الكهنة لهذا النظام العالمي الجديد.
المعبد يعكس أيضا شغف الحضارة الغربية السائدة بإظهار القوة POWER التي انتقلت من الكنيسة إلى الدولة وشاركتها الصحافة والنخب الحاكمة, هذا النفوذ وتلك السيطرة في القرون الماضية.
أوروبا تعبد القوة ولا تعشقها فقط، وأمريكا كانت تطويرا لهذا الهيام وتلك العقيدة.. هي اليوم روما الجديدة التي تركت أثرا واضحا لا لبس فيه على كل مناحي الحياة الغربية اليوم، من يمتلك القوة يمتلك القيادة، وليس أمام الجموع سوى الإذعان والعبودية!!
قلت لمسؤول البنك: ألا ترى أن هناك مبالغة في إظهار البذخ في مبنى كهذا؟ ألا تعتقد أنكم تهينون زواركم بإظهار مثل هذا الغرور والعظمة المصطنعة؟
بعد عدة أشهر زرت المبنى نفسه، وخضعت للإجراءات الأمنية المعقدة نفسها.. قابلني مسؤول البنك نفسه وبادرني قائلا: (أستطيع أن أجيبك الآن على تساؤلك، نعم نحن نشعر الآن بكثير من التواضع، إن الأيام التي مرت منذ بداية الأزمة المالية في الماضي كانت مثل دهرا، كل يوم فيها مثل عام من حيث التغيير والمصائب والتحديات الهائلة، نعم كنا مبالغين في إظهار أنفسنا للآخرين، وكنا ثهلين بغرور القوة وإدهام السيطرة!).
"القوة" وليس "العدل" هو مقياس أي حضارة مادية صماء جوفاء تعشق القوة وهو جوهر التسطيح وسر التعلق بالظاهر وليس هناك حضارة آمنت بالقوة وطورتها كمنهج له تطبيقات كثيرة مثل ما فعلت روما القديمة وابنتها اليوم المتمثلة في روما الجديدة، والقوة لإبدالها أن تغطي عورتها بجلباب هو الدين، وهكذا يعطي الدين شرعية غطرسة القوة وأحلامها ولا سيما بعد أن هزت الكنيسة قبل أكثر من قرنين على يد الأقوياء هزيمة نكراء!!
القوة لا تعرف التواضع وتمقت العدل لأنه يجردها من ممتلكاتها وكنوزها وأسلحتها الفتاكة.
القطاع المالي منذ انهيار حائط برلين كانت بؤرة الغرر الجديدة.
تراجعت الحكومات أمام سطوتها.. برز نجومها وقوائم أثريائها ليصبحوا مصدر إلهام وحسد للآخرين.
تمددت أطرافها لتسيطر على وسائل الإعلام، وليصبح قادة الرأي والثقافة أصدقاء حميمين لا وربما موظفين ومستشارين ضمن "مسير الرواتب"، هذا القطاع المتجبر والمتعجرف الذي كان يروج لنظريات النمو اللانهائي، ويقبض مكافآت تتعدى المائة مليون في العالم نتيجة السمسرة واقتطاع العمولات دون إنتاج حقيقي كان هو النجم بلا منازع، والحادي الذي لا يطرب أحد إلا لألحانه.

صباح الإثنين 15/9/2008 استيقظ العالم فجأة على انهيار بنك ليمان براذرز في أمريكا.. بدأ تسونامي حقيقي ضرب حتى بائع الفستق في زقاق دمشقي ضيق، توالت الأحداث، سقط عملاق من ورق في ساعات وسقطت أولا القوة المادية الصماء، التي وثق بها العالم وسقط معها الغرور وأوهام القوة, الاستعلاء, والكبر.. فجأة أصبح الأمريكان يتحدثون لأول مرة عن أهمية التواضع وخفض الجانب.

يا أيها الإنسان ما أكفرك..
يا أيها الإنسان ما أجهلك..
هكذا بدا صاحب المصرف الكبير شهادته قائلا:
"لقد بالغنا كثيرا في تضخيم أنفسنا وذواتنا العليا.. إنه وقت للتواضع".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي