الاستثمار الجماعي في الحقوق التجارية الآجلة

الواقع أن معالجة الآثار السلبية المترتبة على الأزمة المالية العالمية التي تعرض لها القطاع المالي العالمي ترتكز عن عنصرين أساسيين هما الائتمان والسيولة النقدية، ولهذا فإن العديد من الدول سعت بعد حدوث تلك الأزمة إلى ضخ سيولة نقدية في القطاع المصرفي لكي يستطيع أن يلبي حاجة عملائه من الأموال اللازمة للمشاريع الاستثمارية والاستهلاكية، كما تعهدت بعض الدول بضمان الودائع المصرفية. ومع ذلك فإن تلك الحلول، على الرغم من أهميتها في مساعدة الجهاز المصرفي على تجاوز آثار تلك الأزمة بتقديم الأموال والضمان اللازمين له، إلا أن الأمر يقتضي إيجاد حلول أكثر فاعلية من داخل النظام المصرفي ذاته، أي إيجاد آلية جديدة تكفل توفير السيولة النقدية للبنوك دون الحاجة إلى انتظار ضخ سيولة من جانب حكومات الدول.
ولهذا فقد ظهر في الواقع العملي ما يعرف بنظام الاستثمار الجماعي في الحقوق الآجلة كإحدى الآليات المستحدثة التي تسهم في تعزيز قدرات السوق المصرفية وفي تنشيط سوق المال في آن واحد, وهو عبارة عن عملية تلجأ إليها مؤسسة الائتمان التي ترغب في الاسترداد المعجل للائتمان الممنوح لعملائها، فتقوم بحوالة محفظة حقوقها على هؤلاء العملاء إلى منشأة متخصصة في الاستثمار الجماعي لمحافظ الحقوق. ومن ثم تعقد معها عقد حوالة للمحفظة وما تدره من عائد بثمن يقل عن القيمة الاسمية لها. وتتولى منشأة الاستثمار الجماعي طرح تلك المحفظة للاكتتاب في صورة صكوك مالية، ويمكنها، بالتالي أن تقوم بدفع ثمن الحوالة إلى مؤسسة الائتمان من الحصص النقدية للمكتتبين. ويسترد حاملو الصكوك مدخراتهم من خلال رجوع منشأة الاستثمار على المدينين بقيمة المحفظة، وذلك بمقتضى الحوالة المنعقدة. أما أرباحهم من عملية الاستثمار فتتولد من الفارق بين الثمن المدفوع للحوالة المنعقدة والقيمة الاسمية لمحفظة الحقوق، مضافاً إليها الفوائد المتفق عليها في عقد الائتمان.
فالاستثمار الجماعي في الحقوق الآجلة يعد بمثابة أداة للربط بين السوق المصرفية وسوق المال، وذلك من خلال عمليتين: الأولى: يتم فيها إعادة تمويل مانح الائتمان عبر نقل أصوله غير السائلة والمتمثلة في محفظة حقوقه على مدينيه إلى المنشأة الوسيطة بطريق حوالة الحق، أما في المرحلة الثانية فيتم تفتيت هذه الأصول إلى وحدات تطرحها المنشأة الوسيطة للاكتتاب في صورة صكوك مالية قابلة للتداول.
ويختلف الاستثمار الجماعي للحقوق الآجلة عما يعرف بالتوريق Titrisation - Securitisation والذي يقتصر على المرحلة الثانية من مراحل الاستثمار الجماعي في الحقوق الآجلة؛ وهي مرحلة تحويل الحقوق على صكوك مالية دون المرحلة الأولى التي تتمثل في نقل محفظة الحقوق إلى المنشأة الوسيطة.
كما أن الاستثمار الجماعي في الحقوق الآجلة يختلف عن عملية أخرى تقوم بها البنوك تعرف بشراء الحقوق Factoring ؛ حيث تفترض وجود منشأة تجارية دائنة لزبائن متعددين، بقيمة سلع قامت ببيعها لهم أو خدمات قدمتها لهم، ومن ثم فبدلاً من أن تتوجه هذه المنشأة الدائنة لكل مدين على حدة وتطالبه عند حلول أجل استحقاق الفواتير المثبتة للمديونية لتطالبه بالوفاء بالدين، تتوجه إلى مؤسسة الفكتورنج لتعجل لها قيمة هذه الفواتير، مع التزامها بعدم الرجوع عليها إذا امتنع المدين عن الوفاء لها، ويكون ذلك مقابل عمولة تمثل نسبة من قيمة الفواتير. أي أن مؤسسة الفكتورنج تقدم خدمتين للمنشأة الدائنة هما: الأولى : التعجيل بالدين، والثانية: الضمان وتحمل مخاطر عدم السداد من جانب المدين. ولهذا فإن مؤسسة الفكتورنج لا تقدم هاتين الخدمتين إلا للفواتير التي سبق أن حازت قبولاً من المدين من بين جميع فواتير عميلها بصفته دائناً على مدينه. كما تلتزم مؤسسة الفكتورنج أن تتعاون مع عميلها الدائن فتقدم له العديد من الخدمات أهمها: قيامها بتحصيل الحقوق المثبتة في فواتير غير مقبولة بمقتضى عقد الوكالة العادية المبرم بينها وبين عميلها الدائن، وتتعهد بتبسيط وتنظيم وإمساك حسابات العميل وإمداده بجميع المعلومات والاستشارات المالية التي ينص عليها العقد أو التي يطلبها منها.
ويتفق نظام شراء الحقوق أو الفكتورنج مع نظام الاستثمار الجماعي في الحقوق في أن التمويل يأخذ شكلاً واحداً في كليهما؛ حيث يتم تعجيل حقوق الدائن على مدينه بواسطة شخص ثالث، كما يتفقان من ناحية أخرى في أن التمويل يقترن بالضمان في كل منهما؛ حيث يلتزم الشخص الثالث بعدم الرجوع على الدائن صاحب الحق بقيمة الحقوق التي سبق أن عجلها له إذا لم يفلح في تحصيلها من المدين، وبذلك يحصل الدائن على تأمين من مخاطر عجز مدينه أو تخلفه عن الوفاء، أي أن كلا النظامين يسهم في التخفيف من مشكلة تحصيل الحقوق أو الديون التجارية.
ولكنهما يختلفان من عدة نواح أهمها أن نظام شراء الحقوق التجارية الآجلة يتسم بطابع الجماعية، حيث يلتزم الدائن العميل أن يقدم لمؤسسة الفكتورنج جميع الفواتير الحالة والمستقبلة التي له على مدينه، ولكن تلك المؤسسة لا تلتزم بتقديم خدمتي التعجيل للدين والضمان إلا للفواتير التي تحظى بقبول من المدين أما باقي الفواتير فتتعهد للدائن أن تقوم بتحصيلها له بمقتضى عقد وكالة عادية يبرم بينهما لهذا الغرض.
أما نظام الاستثمار الجماعي فلا يتسم بطابع الجماعية؛ إذ يقتصر اتفاق الحوالة الذي يتم بين الدائن والمؤسسة على محفظة الحقوق التي يعرضها مانح الائتمان وتقبلها المنشأة الوسيطة دون بقية المحافظ الحالة والمستقبلية. كما أنه في ظل نظام الاستثمار الجماعي في الحقوق تتفتت محفظة الحقوق إلى وحدات صغيرة تطرحها المنشأة الوسيطة للاكتتاب في صورة صكوك مالية، أما في ظل نظام شراء الحقوق فلا تقوم مؤسسة الفكتورنج بأي دور في ربط الأسواق التجارية بأسواق المال. ولا تقتصر ميزات الاستثمار الجماعي في الحقوق الآجلة على تنشيط سوق المال، بل إنه يحقق ميزات أخرى عديدة سنتناولها في مقال لاحق ـ بإذن الله ..

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي