المناهج الخمسة لتكوين المثقف المستنير

عندما نريد إطراء شخص ما نصفه بأنه شخص مثقف أو شخص متعلم، وحيث إن هذا التعريف غير مؤطر بوضوح فإنه لا يعبر عن حقيقة كثير ممن يطلق عليهم، فالمثقف في عرف بعض الناس هو الحاصل على درجات علمية عليا أو الأديب محترف الكتابة أو الشخص واسع الاطلاع في أمور شتى وكذلك يكون تعريف المتعلم حيث هو رديف المثقف، وحيث إننا في هذا العصر ومع تعدد مصادر المعرفة أصبح المثقف والمتعلم ضمن التعريف السابق يوسم به عدد كبير من الناس ولم يعد هذا التعبير يمنح صاحبه التميز الذي كان، وبات كثير من المثقفين والمتعلمين غير قادرين على استحقاق ما يميزهم نتيجة محدودية فكرية تحجم تفاعلهم في الوسط الاجتماعي.
هذا بعض من نقاش دار بين مجموعة من الأصدقاء حول ضمور التنوع الفكري والثقافي لكثير من المفاهيم التي تسود المجتمع، وجنوح كثير من المثقفين إلى تكرار فكر من سبقوهم دون تجديد يذكر نتيجة لقصور في المبادرة أو خوفاً من الإقصاء أو دعة في العيش، وهذاً الأمر سيجعل المجتمع من الناحية الفكرية في حالة ركود دون حراك مثير. ولمعالجة جانب من أسباب هذا الخلل لابد لوجود أساليب ينتهجها المثقف حتى يخرج نفسه من دائرة التكرار ويكون قادرا على الإنتاج الفكري المتجدد.
هذا الأمر شغلني على مدى الأشهر الماضية وبت أبحث عن منهج على الأقل أخرج به نفسي من دائرة الاتهام ووجدت ضالتي في اقتباس منهج ابتدعه المفكر بيتر سنجي Peter Senge عندما كان يبحث عن منهج لزيادة فاعلية المؤسسات وتكوين المؤسسة المتعلمة سماه "المنهج الخامس"، ولعل الدكتور سنجي يعذرني في تحوير منهجه لينصب على تهيئة الفرد المثقف بحيث يكون قادراً على الاكتساب الفكري والمعرفي الذي يخرجه من دائرة الرتابة الفكرية. وسأسمي هذا المنهج الجديد " بالمناهج الخمسة لتمكين المثقف المستنير".
لذا سأفترض أن المثقف المستنير هو الشخص المجدد والباعث لتحديات تعيد المسلمات الفكرية إلى محلجة الدرس والتأمل لابتكار تصورات جديدة تسهم في تغذية التقدم الحضاري. لذا ازعم أن على المثقف المستنير أن يمارس بصفة واعية ودائمة مجموعة من النشاطات الفكرية ضمن المناهج التالية:
1- استشراف المستقبل باعتماد التفكير الحر وتكوين رؤى مستقبلية ينشد تحقيقها

من لا يملك رؤية للمستقبل لن يكون قادراً ومعززاً للتغيير، فالرؤية هي نافذة على المستقبل يفتحها ويكون منظرها المفكر بما يختلج في نفسه من تطلعات وما يكتنف عقله من قيم وما يحكمه من تقدير لواقع وقدرات المجتمع المحفز للتغيير. إن استشراف المستقبل بصورة مؤثرة في نفسية المفكر وحافزة له على التفاعل في سبيل إنتاج ذلك المستقبل لا يكون إلا بكسر حواجز الفكر التقليدية والانطلاق في حرية تتجاوز حدود المقبول والمعقول، فالمقبول قيد الفئة، والمعقول قيد التاريخ لذا يجب على المفكر أن يكون حراً في استحضار المفاهيم التقليدية ونزع الحصانة عنها وتجريدها من المشاعر التي تلبسها ثوب القدسية حتى تصبح مسلمة غير نهائية لا تستعصي التحوير والتغيير. إن المفكر بما لديه من أدوات أشبه بالطبيب الجراح يقطع بألم ليعالج ويزيل الفاسد من الأعضاء ويزرع مكانه آخر صالحاً ثم يخيط ويحتمل شكوى المريض لعلمه بأن مآله إلى الشفاء من علته. إن المفكر وهو يقوم بذلك ينظر للمستقبل على أنه حالة الشفاء التي يحتاج إليها الواقع العليل.

2- شحذ الهمة والعمل على الاكتساب المعرفي والفكري لرفع التقانة الذاتية
إن من يستقي من مورد واحد لن يعرف طعم الموارد الأخرى ولا روائحها والمثقف لابد له من تنويع مصادره حتى وإن كان يروق له فحواها أو مورد بعضها. إن المعرفة لا تتحقق إلا باستيعاب طروح الآخرين واستكناه أصول حججهم وتمثل منهج تفكيرهم. بهذا يستطيع المثقف اكتساب مجمل ما يطرح في ساحته وعليه أن يهتم بجانب مهم في هذا الإطار وهو بناء منهجية عملية للأخذ والرد والمعالجة والاستنباط والمزج حتى يتمكن من بناء تقانة ذاتية تحميه من الضياع والتشتت أو الارتهان للخوف من الميع في فكر الآخرين فلا يجوز للمثقف نفي ما لا يحب لمجرد كونه مختلفاً عما يروق له، بل عليه أن يفتح أبواب عقله وفكرة ويجتهد في فهم المختلف فهماً مبنياً على دراسة تأصيلية لذلك المختلف وفي حالة وجدانية بها يحترم المثقف المختلف ويقدر إسهامه في البناء الفكري للحضارة، فلا مكان للتحقير والتهميش والاشمئزاز ممن يختلف معهم أو يقرع جهودهم فالحجة المطلقة ليست حكراً على أحد.
3- التأمل الحر في المخزون الفكري الذاتي وتنسيق متضاده وإزالة تناقضه

كل منا لديه مخزون فكري ألقاه في مستودع الذاكرة الفسيح على مر العصور ومرات عديدة دون اكتراث أو تساؤل عما إذا كان ذلك الفكر صالحاً لنا في كل زمان ومكان، وكثير من ذلك المخزون قد كساه الصدأ ولكن عندما يواجه الإنسان بوضع يستلزم التأمل أو التصرف على نحو غير معتاد تبرز تلك المخزونات الفكرية لتقود تصرفاتنا وتهيمن على قراراتنا ومنا كثيرون يواجهون تناقضاً في ذلك الفكر، الأمر الذي يجعلهم في حيرة وشتات رأي . ولا أخطر من هذا إلا على المثقف الذي وإن سعى لبناء هيكل فكره الذي يدافع عنه ثم أتاه التناقض من ذاته فبات كمن وضع متفجراً في ذلك الهيكل. لذا فالمثقف المستنير مطالب بالخلو مع ذاته أوقاتاً كثيرة والبحث في مخزونه الفكري عن المتناقض والشاذ وبناء منظومات عقلية يتسق فيها فكره وما لا يستقيم مع ذلك عليه إزالته.

4- تبني أسلوب النظم في التناول الفكري لمجمل المسائل المحيطة
التربويون هم أكثر من يلم بأسلوب النظم فمنهم خرج وهم أكثر من يستخدمه على أن استخداماته الفكرية شملت كل الآفاق، وأسلوب النظم هو ببساطة: النظر لجميع النشاطات البسيطة والمركبة على أنها تفاعل لمدخلات محددة ضمن قوانين إجرائية مضبوطة لتحقيق مخرجات محددة سلفاً وتأكيد النتيجة بمقارنة المستهدف بالمتحقق، فإن لم يحدث ذلك تتم مراجعة مصداقية المدخلات أو القوانين الإجرائية والمخرجات حتى يتم تطابق المستهدف مع المتحقق. إن أسلوب النظم هو منهج فكري بحد ذاته وهو ليس اختراعاً بل هو تمثيل لكثير من مظاهر الحياة فالإنسان عندما يسير في الطريق قاصداً مكاناً معيناً، فمدخلاته هي الهدف والطريق، وقدرته على المشي والنظر والقوانين الضابطة هي حركة الأقدام ومدى الثقل على كل قدم ... إلخ .. والنتيجة هي الوصول للهدف. لذا فالمفكر عليه أن يجعل بناء فكرة ضمن هذا الأسلوب فيضع الفكرة المراد استهداف إنتاجها ثم يحصر المدخلات ويضع القوانين الإجرائية ويقارن ناتج تفكره بما استهدف الوصول إليه.
5- الانعتاق من قيد الالتزام بمضامين الصيغ الفكرية السائدة
كل منا لديه في ذاكرته كم هائل من الأمثال والأقوال المأثورة وأبيات الشعر، وكل واحد من تلك يحتوي مضموناً يمثل صيغة فكرية جاهزة فكلما الم بنا موقف وأردنا التعبير عن موقفنا الفكري حول ذلك نذكر أياً من تلك الصيغ الفكرية دون إجهاد للفكر وتأمل لكون ذلك الموقف الذي كون تلك الصيغة الفكرية مختلفاً لو طبقنا أسلوباً تفكيكياً لذلك. فالصيغ الفكرية الجاهزة اكتسبت مرجعية فكرية سائدة لكون مصدرها اكتسب إجلالاً تاريخياً أو مصداقية مكانية اجتماعية أو أدبية أو علمية. وكثير من هذه الصيغ تتناقض في مضمونها الفكري إلا أن كثيراً من الناس يعبر بها في مواقف مختلفة لتتفق مع عاطفته الآنية متسلحاً بمصداقيتها لاكتساب الحجة لمقاله. لذا وحتى يكون المفكر عتيقاً من تلك القوالب الفكرية الجاهزة، عليه ألا يلجأ للاستشهاد أو الاحتجاج إلا بما تأمله من تلك الصيغ ووافق فكره في كل الأحوال.
أجزم أن من ينتهج هذه المناهج الخمسة سيجد نفسه مفكراً مختلفاً عما هو عليه الآن ولا أعني أنه سيغير كثيراً من مفاهيمه الفكرية بالضرورة، بل سيكون أكثر رسوخاً فيها وإلمام وقدرة على التعبير والدفاع عنها بل إنه سيجد راحة نفسية واستقراراً ذهنياً نتيجة للتخلص من التناقض الضامر في مكامن العقل البشري.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي