نحن في غزة (1 من 2)

من أجواء الجحيم في غزة يكاد لا يصدق الإنسان أن يصل إيميل ولكنه مع ذلك وصل وهو يدل على تحول نوعي في قوانين الحرب؟
قال الرجل: سيدي الكريم
راسلتك ببعض ما يعتمل في صدري كفلسطيني أعيش في غزة
من واقع حياتنا هنا.. ربما وجدت فيها ما يصيبني من تلقائية الشعور
عند التعرض لهكذا قهر أو آلام فأعبر عنه بقليل من الكلام.
وهأنذا اليوم أرسل لك شرحاً مستفيضاً عن مزيد من هذه المعاناة عن قرب راجياً أن يجد فسحة من الوقت في يومك للمرور عليه.
نحن في غزة صلاتنا جمع، خبزنا طابون أو طابور، وطعامنا تقتير، نهارنا ظلام، وليلنا سهاد، حزننا دوام، وكربنا مدرار، عيشنا عز، وموتنا فخار، رباطنا صبر، وعزمنا جبار..
الساعات الثلاث التي نستمتع فيها بوجود الكهرباء أمضيها في شحن بطاريات الكشاف اليدوي والجوال والكاميرا واللاب توب، وفحص البريد كأسرع ما يكون لإرسال ما يمكن إرساله من رسائل أو ردود سريعة على معظم ما يرد من أخبار حول الحرب الصهيونية على غزة، فأجمع أكبر قدر ممكن من الصور وأرسلها عبر المجموعات البريدية كافة التي أتمكن، على أمل صنع رأي عالمي مؤثر، وقلق دائم كالذي يعتمل في صدر مهند ويوسف وعلي وأحمد والصغير خالد وسعيد ومحمد، أو ربما بعض من أحزان هند وربا ورنا وهبة وأمل وملاك ونورا ورهف وشمس وهيا وخلدية الشقية..
الفائدة من اللاب توب تكون درجتها وصلت الذروة في المساء العنيد، حين يجتمع أولئك الأطفال كافة من بنات وأبناء أخواتي ليشاهدوا فيلما اخترته لهم، في محاولة لنزعهم من الجو المحيط وما به من كآبة ودماء، ومناظر الجثث والشهداء تترى عبر وسائل الإعلام وتفيض ولا تغيض يومياً، قد يجدي الفلم خصوصاً لأنه كارتوني بأداء عال وإتقان رسومي راق يجعلهم أثناء المشاهدة لا يعيرون انتباهاً لصوت القصف بالخارج رغم وحشيته وقوة تدميره.
وعندما يغادرون قاعة السينما المصغرة في غرفة مكتب بيتي يمضون بقية يومهم على حالين، إما في حديث مرح عن المشاهد التي غسلوا بها أعينهم، وإما في سؤال حائر عن العرض المقبل، غدا، وكلانا يوقن أن غداً هو أبعد ما نأمل، أشكر الله أنه مازال لدي كثير من هذه الأفلام المنزلية للصغار، ومازال في جعبتي لهم الأجمل دوماً..
تسامرني أختي أننا اعتدنا الظلام تماماً، تأقلمنا والتكدس في غرفة واحدة، والمبيت فيها بلا تذمر، غريب هذا الإنسان، فسرعان ما يألف ما يأنف، ويتعود على ما لا يعرف، حالما يُجبر عليه، الأغرب من ذلك أننا جميعاً أصبحنا نستهجن حين تحين ساعة قطع التيار ولا ينقطع، لقد مضت الساعات الثلاث، لماذا لا نحظى بقليل من الظلام حتى الآن؛ كيما نمضي بقية اليوم في دعة وسلام كما اعتدنا بعيداً عن العالم، وعن كل مظاهر المدنية الحديثة ووسائل التواصل المعهودة؟
إن شركة الطاقة هذه لا تحترم المواعيد غالباً، فقد انتهينا من شحن بطارياتنا كافة، والقناديل في انتظار أن تأخذ باليد الزمام، وهذه الكهرباء تأبى أن تفارقنا، إذن لا مانع من تشغيل المحرك المسئول عن رفع الماء من البرميل أسفل البيت إلى البراميل فوق السطح، حتى نحظى بماء عبر الصنابير بدلاً من الدلو والإبريق، فقد مضت علينا هذه الأيام لا نعرف طريق الماء إلا من خلال الدلاء وأواني المطبخ المناسبة.
معلوم أن الحصار خلال الستة أشهر الماضية والذي كان يسمى على صعيد رسمي عالمياً: التهدئة، قد أتى على كل شيء تقريباً من مصادر الحياة الأساسية، فقد انتهى تقريباً آخر أثر لغاز الطهي، وقد شوهدت آخر أنبوبة غاز حية ممتلئة في شهر نوفمبر العام الماضي في منزل قريب لدى إحدى العائلات، بعدها انقرض أي أثر للغاز في المنطقة، واستحال الناس للبديل الأسرع، الكاز الأبيض، وهو يحتاج لطابور أيضاً، بينما فضّل البعض الآخر النار كمصدر ملهب للمشاعر والطبخ أيضاً، وما يتبقى منها ينفع للتدفئة في هذه الأجواء المتجمدة التهاباً..

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي