لو اعتمدت الأجهزة الحكومية مبدأ الخدمة أولا

اتصل بي أحد الأقرباء من غير الساكنين في مدينة الرياض يطلب المساعدة في تتبع معاملة له لدى إحدى الوزارات, وعلى الرغم من قناعتي أن بإمكانه أن يقوم بالشيء ذاته عن طريق الاستفسار بالهاتف من الوزارة نفسها إلا أني وجدتها فرصة لبر ذلك القريب العزيز علي. وبمجرد أن أنهيت مكالمته, اتصلت بهاتف الوزارة العام أملاً أن أحصل على إفادة سريعة أسر بها قريبي, ولكن أملي خاب مرتين، الأولى عندما لم أستطع أن أصل لمن يرد على تحويلة إدارة الاتصالات في الوزارة إلا بعد ما يزيد على عشرين محاولة وبعد ساعتين من المحاولة الأولى، والخيبة الثانية عندما أبلغني الموظف أن التعليمات تقضي بعدم إعطاء معلومات على الهاتف ولابد من الحضور الشخصي لصاحب المعاملة أو شخص مفوض بوكالة شرعية أو تفويض من مرجع مقبول.
يبدو أن خيبتي كانت كبيرة لدرجة أن ذهني وبصورة أتوماتيكية وقائية هرب من ذلك الواقع المؤلم إلى واقع افتراضي تصور لي فيه ذكرى تلك الحلقة من مسلسل طاش ما طاش التي يذهل فيها المواطن من جفاء واقعه لدرجة أن يحلم بواقع جميل يخدم فيه الموظف الحكومي المواطن بكل أريحية وسعادة وتتنافس الجامعات على تسجيل ابنه لديها إلى آخر تلك الأماني. وفعلاً وجدت نفسي أسرح في تصور ما يمكن أن يحدث فعلاً لو أن الأجهزة الحكومية تبنت جميعاً مفهوم الخدمة أولا، أي قبل الاعتبارات الأخرى مثل "الضبط المستندي, أبوية الدولة للمواطن, الحماية الذاتية للموظف, ومنة المسؤول وهيبته" والتخلي عن قوالب فكرية سلوكية تفترض أن صاحب الحاجة ملحاح ومن لم يلح فلا حاجة له, ما مردود ذلك على المجتمع وعلى الاقتصاد لو عرفنا أن غالبية الآلاف من المواطنين الذين يفدون على العاصمة كل سنة هم وافدون لتتبع معاملات لهم لا عمل لهم سوى التردد على مكاتب الموظفين والمسؤولين لدفع سير المعاملة التي نادراً ما يكون لهم دور في التأثير في مسارها أو تعديل نتيجتها, ولكن عدم دفعهم لها ربما يجعلها لا تسير وإن سارت فدبيب النمل أسرع. كم من الأموال تصرف في تلك السفرات وكم من الأعمال تعطل بداعي السفر وكم من الأرواح تذهب في حوادث الطرق الطويلة لم يكن لها داع سوى دفع معاملة, وأخيراَ كم من المعاناة والمشقة وأحياناً الاستجداء ما كان يجب أن يكون لوساد لدى المسؤولين والموظفين في الدولة مفهوم "الرعاية والخدمة أولاً ".
الكل يعلم أن الدولة متخمة بعدد الموظفين الإداريين وعديد منهم موكل بمهام هامشية لا تستهلك من وقت دوامه إلا اليسير, ومع ذلك يواجه المواطن بتضجر بعض الموظفين من استفساراته واستيضاحاته حول أمور تهمه وتعني له الشيء الكثير, وذلك راجع لسبب من اثنين: الأول أن الموظف لا يستطيع استيعاب موضوع المراجع لقلة المعرفة النظامية والإجرائية والثاني تبلد وجداني ناتج عن شعور بالاستعلاء على المراجع نتيجة حاجة المراجع إلى مساعدته, وفي كلتا الحالتين تكون الملامة على المسؤول الأعلى الذي لم يوفر لموظفيه التهيئة والتدريب الكافي لاستيعاب شؤون مراجعيهم ولم يكلف نفسه ببث روح النخوة فيهم وتقدير المبادر للخدمة ومعاتبة المقصر.
إن ما هو مطلوب من جميع المسؤولين في الدولة والذين تتماس مصالح المواطنين مع أجهزتهم بصورة يومية أن يراعوا الله في الأمانة التي وكلت إليهم وأن يسخروا جزءا كبيرا من مواردهم المالية والبشرية لتيسير خدمة المواطنين بالصورة التي تضمن تطبيق الأنظمة وحفظ الكرامة فيهيئوا موظفيهم لذلك بالتدريب والتوجيه وييسروا أساليب الاتصال بأجهزتهم وتقديم خدماتها من خلال الهاتف والفاكس والبريد السعودي والبريد الإلكتروني والإنترنت وتجنيد موظفين مخصصين لتتبع معاملات المراجعين داخل الجهاز الحكومي وإبلاغ المراجع من خلال مكتب موحد.
إنني أتساءل ألا يمكن أن يبت في كثير من المعاملات التي ترفع للأجهزة المركزية في العاصمة وخصوصاً الوزارات من خلال المكاتب والإدارات الممثلة لها في المناطق, فالنظام واحد والاجتهاد متاح لكل موظف مؤهل؟ ألا يجوز أن يولى مسؤولو المكاتب الإقليمية تفويضاً أكبر بحيث تقلل مراجعة المواطنين للأجهزة المركزية بقدر الإمكان؟ أليس من الأجدى التخلي عن مبدأ الاستثناء المغري لكثير من المراجعين بطلب رفع معاملاتهم لصاحب سلطة الاستثناء والذي لا يكون إلا وزيراً أو وكيلاً له حتى أن كثيراً من الإدارات الإقليمية وفي سبيل رفع الحرج ترفع المعاملة لمرجعها ولو لم يطلب المراجع ذلك.
إنني وأمام هذه المطالب المهمة والتي تستحث الدولة على زيادة فاعليتها في خدمة المواطن وتحقيق رفاهيته أقترح تأسيس جهاز متخصص مرتبط بديوان مجلس الوزراء يقوم بتهيئة الأجهزة الحكومية ذات العلاقة المباشرة مع المواطن لتكون أجهزة خدمة فاعلة من خلال دراسة طبيعة نشاطها ومواردها وتمكينها من الموارد التقنية التي تساهم في ذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي