عساك العمى

"عساك العمى" ما أجملها من صرخة دوَت في ساحة المطاعم في أحد المراكز التجارية الشهيرة في "جدة غير" بطلها مرب فاضل في مدرسة خاصة من تلك التي تشن وترن وجهها إلى طفل لم يتجاوز عمره ستة أعوام كان ضمن مجموعة من الأطفال في رحلة سجن "عفوا" في رحلة مرح مدرسية إلى ذلك السوق، هزت تلك الصرخة أركان السوق وأرعبتني رغم أنني بلغت من الكبر عتيا، إلا أنها أثارت في نفسي الفضول فتركت ما جئت من أجله وذهبت وجلست قريبا من هذا المشهد لا لأراقب الأطفال بل لأراقب سلوك تلك المجموعة من المدرسين أو المرافقين والمنافقين لأولياء أمور أولئك التعساء من البراعم الوطنية، وكم تمنيت أن والد أو والدة أحد أولئك البراعم حاضر ليستمع بنفسه إلى دعاء الكروان الذي وجهه المربي الفاضل لفلذة كبدهما ويشاهدا بأم أعينهما تلك المثالية في التعامل مع الأطفال أو البراعم، ولأستمتع بمشاهدة الحالة الافتراضية بقيام الأم أو الأب بأخذ حق ابنهم بافتراس ذلك المدرس بالأيادي والأرجل "أكشن" على طريقة الأفلام الهندية.
على ما بدا لي ، أنه قاد الرحلة ثلاثة مرافقين من المدرسين، اثنان تبدو عليهما آثار السعودة، واحد منهم بطل القصة وآخر من دولة عربية شغيغة "بالغين وأفهموني"، وكل منهما أدى دوره على التمام والكمال، إلا أن الأخ من الدولة الشغيغة كان أكثر حنَية من زملائه السعوديين، فكان طول الوقت يردد "إنتم حتجنوني، لا حول ولا قوة إلا بالله، يا ابني أنا ما داير أقلًك تقعد على الكرسي ذاتو"، إلا أنه وجه إلى رؤوسهم اليانعة بعض الخبطات اللطيفة متوسطة المدى من طراز القسَام، أما المربي الثالث الذي تبدو عليه آثار السعودة الإجبارية علت على وجهه قسمات الأسى والحزن، وبدا لي أنه يحمل على ظهره هموم الدنيا وما فيها، وكان يرمقني بين لحظة وأخرى ولسان حاله يقول لي "ما تقوم من قدامي يا منيَل على عينك هو أنا ناقصك"، وانعكس كل ذلك على هندامه وعقاله الذي تدلى خارج نطاق شماخه والغبار الذي كان يعلو حذاءه أو صرماته، كتلينته، جزمته، كندرته" أوردها هنا بمراد فاتها لما للصرميات في عالمنا العربي البليد من قوة سياسية وعسكرية يمكن استخدامها والتلويح بها عند فشل العقول، وازدادت دهشتي لكون المدرسة التي ينتمي لها الفريق من المدارس مرتفعة الرسوم إلا أنها "من بره ها لله ها لله وكادرها يعلم الله".
نموذج صارخ من سلوك الكوادر التربوية التي تذخر بها مدارسنا الخاصة والعامة وكيفية التعامل الذي تسلكه في تشكيل شخصية أطفالنا، كما لا تخلو بيوتنا في الوقت نفسه عن ذلك على حد سواء "تعال يا ورع.. روح يا ورع" فنحن نمارس الأبوة والأمومة والتربية بالدراع، لا بسمة ولا ريق حلو، فأطفالنا يبدأون يومهم بدعوة عمى لنزداد عمى على عمى، وينتهي يومهم بكلمة اذهب إلى النوم يا ورع ، لقد درج أطفالنا على تلك السمات منذ نعومة أظفارهم، فقتلنا فيهم الشخصية التي تتشكل مما يرون ويسمعون ويقلدون، وسلبناهم في الوقت نفسه احترام ذاتهم واحترام القيم وسمو الأحاسيس والمشاعر، ودفعناهم إلى التقوقع دفعا ولم نمنحهم مساحة للحركة أو التعبير، إننا نمارس تربيتهم وتعليمهم بنمط تعليمي أزلي وكادر تعليمي وتربوي غير مؤهل، نتجرع تجاربه السابقة بنفس الأسلوب وبنفس الدعاء "عساكم العمى"، إنني لا أجد سببا يجعلنا نوكل تربية وتدريس أطفالنا في تلك السن المبكرة إلى مدرسين وليس إلى مدرسات، إننا في حاجة بلا شك إلى إعادة النظر في منظومة التعليم الخاصة بالطفولة المبكرة والمتوسطة من ستة إلى تسعة أعوام، ودعونا نعطي للنساء فرصة تكوين شخصية أطفالنا ذكورا وإناثا، فهم الأقدر على ذلك أم سنظل نقول إن طفل الخامسة أو السادسة ممن يطلعون على عورات النساء، نحن في حاجة ماسة إلى كادر تعليمي قدوة ومدرسة نموذجية ومنهج تعليمي تعلٌمي حديث يهتم بالتقنية وترسيخ وبناء الشخصية، ولو كنت مسؤولا لأنشأت وزارة خاصة لرعاية الأطفال .

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي