نحو تهيئة بيئة استثمارية جديدة

شهدت الجهات التمويلية في دول الخليج ركودا نسبيا من قبل شركات ومؤسسات القطاع الخاص التي اتجهت نحو تخفيف الاقتراض من البنوك بعد أن لجأت إلى تهدئة سير مشاريعها (قيمة عقود التشييد في الإمارات انخفضت 85 في المائة في الربع الأخير من العام المنصرم مقارنة بالفترة نفسها من عام 2007) وخططها الإنتاجية، أو أن البنوك ترى أن هناك مؤشرات على انخفاض مكاسب إقراض الشركات مما يجعلها تتجه نحو التوسع الإقراضي للأفراد.
ووفقا لآخر التقديرات المتداولة فإن حجم الاقتراض في السعودية يصل إلى نحو 600 مليار ريال يبلغ حجم القروض الاستهلاكية وبطاقات الائتمان بأكثر من 182,6 مليار ريال (18/12/2008) مستغلة البنوك ميزة تحويل الرواتب إلى حساب العملاء في المصارف، ويعد توجه البنوك والجهات الممولة نحو تمويل القروض الاستهلاكية هروبا من الدخول كممول في مشاريع كبيرة وطويلة المدى ذات رأسمال كبير وذلك بعدا عن المخاطرة.
وتستفيد الجهات الممولة من ضعف ثقافة الأفراد وأحيانا حاجتهم الماسة إلى تلك القروض وعدم معرفتهم الدقيقة بالفوائد المركبة التي تطولهم من حجم نسبة الفائدة وكذلك العمولات المقتطعة لجهات التمويل تصل الفوائد أعلاها في بعض التمويل الإسلامي إلى أكثر من 15 في المائة.
وفي جولات ميدانية أجرتها جريدة "الاقتصادية" كشفت بل فضحت قيام شركات تقسيط من قبل أفراد، ومع توسع أعمالها بشكل كبير جدا وهي بعيدة عن أي رقابة أو نظام يسير أعمالها على غرار المتبع في سير عمليات الإقراض في البنوك، تمتهن هذه الشركات أو على الأصح هذه المكاتب التمويل الإسلامي كغطاء وواجهة من أجل تنمية أعمالها لبيع بعض السلع وبنسب فوائد عالية، وكنت أتمنى أن تتولى جهات أكاديمية في مراكز بحوث إحدى الجامعات لدراسة هذه الظاهرة التي كشفتها "الاقتصادية" دراسة علمية وافية ومستفيضة تبني عليها توصيات تساعد أصحاب القرار على مواجهة مثل هذه الظاهر السلبية المتغلغلة في اقتصادنا الوطني كي تمنع الإفراط في الائتمان التي ينتج عنها أزمات مفاجئة تؤثر في الاقتصاد المحلي، وإيقاف ظهور شركات مساهمة للتقسيط أي شركات شرعية غير خاضعة لضوابط البنوك وتصبح فقط وسيطا بين المقترض ومراكز البيع تكتفي بحصولها على الفوائد المركبة العالية مما يشجعها على إقراض جميع الفئات بما فيها الفئات غير المليئة وغير القادرة على السداد.
وتبرز هذه الظاهرة في ظل ظروف التباطؤ الاقتصادي وانخفاض مبيعات التجزئة و السلع الاستهلاكية نتيجة انخفاض القوة الشرائية لدى المتسوقين ترجع لأسباب عديدة منها انخفاض السيولة نتيجة الخسائر التي مني بها صغار المساهمين في سوق الأسهم خصوصا إذا كانت تلك الخسائر أموالا مقترضة.
فتوفير الإطار الرقابي ضروري لضبط عمليات الإقراض الاستهلاكي تخضع تلك القروض لمركز معلومات موحد، لأن المستهلك لا يهتم إلا بتلبية احتياجاته دون النظر إلى الأعباء المالية المترتبة عليه والتي سيتكبدها، وعندما يكتشف أن الفوائد تراكمية وعالية يشعر حينها بأنه استغل، فيتوقف عن السداد حتى ولو كان مليئا في أحيان كثيرة، كما يتحتم علينا البحث عن إجابة شافية لعدم استجابة شركات التقسيط البالغ عددها 155 شركة بإجمالي بتمويل ثمانية مليارات ريال ولكنها لم تنضم إلى شركة سمة للمعلومات الائتمانية عدى 15 شركة، مما يدلل على وجود علامات استفهام في عملياتها الإقراضية، وأنها تخشى انكشاف عملياتها، ويمكن إيقاف أي شركة ترفض الانضمام إلى شركة سمة وسحب ترخيصها حتى تتمكن الجهات المسؤولة من متابعة عملياتها الإقراضية.
ويتساءل كثير من الاقتصاديين وغير الاقتصاديين عن أسباب ارتفاع فوائد شركات التقسيط أكثر من البنوك؟
وهو نفس السؤال الذي يوجه إلى البنوك عن أسباب غياب البنوك عن المشاركة الفعالة في القروض الإنتاجية، إلى جانب تقديمها القروض الاستهلاكية؟ بل إن التوسع في قروض استهلاكية من النوع الذي يتصل بعمليات بناء المساكن العائلية تسهم في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني وتوفر فرص عمل جديدة وتسهم في الوقت نفسه تخفيض نسبة التضخم، على عكس القروض الاستهلاكية الأخرى التي تتسبب في ارتفاع نسبة التضخم.
وتتحمل الهيئات الشرعية جزءا كبيرا من المسؤولية لأن شركات التقسيط أو المندوبون في البنوك يقومون بتسويق الفتاوى الشرعية كي تصبح نسخا مكررة ومقلدة لأدوات البنوك التقليدية، أي أنه يصبح التفافا على الصيرفة الإسلامية وتغريرا لمقترضين بأنها متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية بسبب أن الفتاوى غير متضمنة خطوات وآليات التنفيذ، واستغلت جهات التمويل أيضا غياب وجود رقابة شرعية داخلية متخصصة يوفر لها الاستقلال الكامل والدعم المالي والبشري والتأهيلي الكافي الذي يمكنها من أداء مهامها على الوجه الأكمل خصوصا وأن البنوك وشركات التأمين الإسلامية لا سبيل أمامها للاستثمار في السندات طويلة الأجل، لكنها قصرت استثماراتها في قطاع العقارات (ذكرت نشرة ميدل إيست إيكونوميك دايجست (ميد) الأسبوعية أن إجمالي التعاقد في المشاريع خصوصا في المشاريع العقارية في الإمارات وصلت بقيمة 191,8 مليار دولار عام 2008 بانخفاض 60 في المائة عن مشاريع بقيمة 482,5 مليار دولار في 2007 ) وهو رهان يتسم بالخطورة المتزايدة للحصول على عوائد مستقرة بعد ارتفاع كبير في أسعار الممتلكات على مدى السنوات الخمس الماضية وإن كان الجميع في مراجعة تلك الاستثمارات بعد ظهور أزمة الانقباض الائتماني العالمية الحالية.
وتعد المشاريع الصغيرة والمتوسطة من أعلى المنشآت حظا من حيث فرص النجاح خاصة أنها تخضع للإشراف المباشر من صاحبها وتعد قاعدة مغذية ومكملة للصناعات الكبيرة وهي حاضنات تكوين الطبقة المتوسطة أي أنها ركيزة الاقتصاد وعموده الفقري.
وكثير من الفرص سوف تظهر نتيجة للتباطؤ الاقتصادي الذي يشهده العالم في الوقت الراهن، ولكن يترتب على الشركات الإنتاجية أن تتحرك بسرعة لاقتناص هذه الفرص، لأنه عندما تكون هناك فرص هائلة، فالسيولة المتوافرة يمكن أن تستثمر بصورة فاعلة لتخرج الاقتصاد الوطني من براثن الأزمة لأن أفضل الشركات التي لديها أفضل المنتجات تظل قائمة إذا حدثت أزمة.
ودور الحكومات هو القيام بدور تحفيز المنافسة إلى جانب تشجيع روح المبادرة لتأسيس المشاريع والتنافسية المتمثلة في إصدار القوانين المنظمة حينما لا تكون هناك أنظمة كافية أو ضابطة تمنع الاحتكار التي تستغلها الشركات الاحتكارية التي يمتلكها المتنفذون، أو نتيجة سيادة القطاع العام لأنه قطاع غير تجاري لا يعتمد المنافسة في عملياته يتسبب في احتكار الخدمات بأسعار مرتفعة وغير متوافرة في أماكن كثيرة مما ينتج عنها خلل في توزيع الثروة وعدالة التنمية وارتفاع نسبة التضخم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي