العالم سيستهلك 85 مليون برميل يوميا.. وندرة في الوظائف
إن أسعار النفط تمثل مقياسا للاقتصاد العالمي، فارتفاع الأسعار بين عام 2003 وحتى منتصف عام 2008 عكس حالة جيدة جدا من النمو الاقتصادي العالمي لم يشهدها العالم منذ أكثر من قرنين. لكن هذا النمو الاقتصادي المرتفع قد بدا بالتلاشي خلال عام 2008، ليس فقط نتيجة عدم التأهب للحالات الطارئة، وفائض السيولة، والثقة العمياء باقتصاد السوق وغياب التشريعات ولكن أيضا نتيجة ارتفاع أسعار السلع الأساسية بدرجة لا يمكن إدامتها، وكان النفط على رأس هذه السلع. والآن وبعد أن انكمش الوضع الاقتصادي العالمي وأصاب الركود اقتصاديات الدول الصناعية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، فإن أسعار النفط قد انخفضت بمقدار الثلثين. كما أنه من المتوقع أن ينخفض الطلب على النفط في عام 2009 بعد أن انخفض فعلا عام 2008 نتيجة الانكماش والركود الذي أصاب الاقتصاد العالمي. كل هذه التطورات حتما سوف يكون لها تداعيات سلبية كبيرة في الاستثمار والتوسع في قطاع الطاقة بصورة عامة وفي قطاع النفط والغاز بصورة خاصة. وبالتأكيد سيتأثر قطاع العمل والتوظيف بصورة أو بأخرى نتيجة هذه التداعيات لكن ليس كما حدث في الماضي القريب.
ولاستشراف مستقبل العمل والتوظيف في قطاع الطاقة بصورة عامة وفي قطاع النفط والغاز بصورة خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية، لابد من دراسة وتقييم آثار انخفاض الطلب على النفط وكذلك انخفاض أسعار النفط التي شهدها العالم في منتصف الثمانينيات، 1998 وأوائل عام 1999 على الصناعة النفطية وبالأخص على اليد العاملة الماهرة وتداعياتها على الفترة التي أعقبت ذلك، خصوصا في فترات زيادة الطلب وارتفاع الأسعار.
تشير الإحصائيات والدراسات الخاصة بقطاع التوظيف في الصناعة النفطية خلال فترات انخفاض الطلب على النفط وكذلك انخفاض أسعار النفط التي شهدها العالم في منتصف الثمانينيات، 1998 وأوائل عام 1999، إلى قيام العديد من الشركات النفطية الدولية والوطنية بتخفيض عدد العاملين الفنيين وغير الفنيين على حد سواء، وفي الوقت نفسه تم حجب حوافز المهندسين المؤهلين للتدريب لدخول الصناعة النفطية. ونتيجة لذلك، فإن عدد المهندسين والعاملين المؤهلين وخصوصا من الجيل الجديد قد تناقص بصورة كبيرة جدا. تزامن كل هذا مع زيادة نسبة المهندسين وباقي العاملين في القطاع المتوقع تقاعدهم خلال فترة قصيرة، حيث وصلت هذه النسبة إلى نحو 45 في المائة من القوى العاملة. فخلال عام 1998 ومطلع عام 1999 بسبب تدني الأرباح والتنبؤات المتشائمة بخصوص مستقبل الطلب على النفط والأسعار، قامت معظم الشركات النفطية وخصوصا في القطاع الاستخراجي بتسريح أعداد كبيرة من العاملين لديها وذلك لخفض التكلفة وزيادة الأرباح، وتشير الإحصائيات الحكومية إلى أن عدد الوظائف للعاملين في القطاع الاستخراجي النفطي والغازي في الولايات المتحدة الأمريكية فقط ، قد انخفض بنحو 40 ألف وظيفة، في حين فقد قطاع الخدمات الحقلية أكثر من 20 ألف وظيفة في الفترة نفسها. إضافة إلى ذلك قامت الجامعات والمعاهد المتخصصة بتقليص كبير في عدد المقاعد الدراسية المخصصة للاختصاصات الهندسية والعلمية المؤهلة للعمل في القطاع النفطي والصناعة الاستخراجية. فمثلا في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وخصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، قامت الجامعات التي سبق أن خرجت في كل عام المئات من الاختصاصات العاملة في مجال الصناعة النفطية، بخفض جذري في عدد هذه الاختصاصات في منتصف الثمانينيات، 1998 وأوائل عام 1999، اعتقادا خاطئا منها بأن هذه الصناعة لم تعد بحاجة إلى هذا العدد الكبير من الخريجين. وفي الوقت الحاضر تتخبط هذه الجامعات والمعاهد لتوسيع نطاق إعداد البرنامج الخاص لإعداد الكفاءات الهندسية والعلمية للحاق بالطلب الحقيقي والمتوقع منها. جميع هذه الإجراءات أثرت سلبا في سمعة العمل والتوظيف في الشركات النفطية بصورة خاصة والقطاع النفطي عموما، ما حدا بالكثيرين وخصوصا من الجيل الجديد بالعزوف عن التخصص والعمل في هذا القطاع.
وكانت لهذه الإجراءات تداعيات كبيرة على القطاع النفطي في الفترة التي تلت ذلك وتحديدا في الفترة الممتدة بين عام 2003 وحتى منتصف عام 2008، حيث ازداد الطلب على النفط زيادة ملحوظة وبصورة خاصة في البلدان النامية وبالتحديد الصين والهند ودول الخليج، وفي الوقت نفسه ارتفعت أسعار النفط إلى مستويات قياسية لم يشهدها العالم من قبل لعدة عوامل لا مجال للحديث عنها في هذا المقال. هذه التطورات في أسواق النفط حفزت الشركات النفطية العالمية والوطنية على زيادة الاستثمار لتطوير حقول نفطية جديدة وكذلك لإدامة الإنتاج من الحقول المنتجة حاليا، وذلك لسد حاجة السوق المتزايدة على النفط ولتحقيق أرباح إضافية. ونتيجة لذلك ازداد الطلب على مواد الإنشاء، وخصوصا الحديد والأسمنت، وعلى المعدات المستخدمة في الاستكشاف وتطوير الحقول والإنتاج وبالتحديد معدات الحفر والأنابيب والعازلات وغيرها، وكذلك على الخدمات الأخرى المواكبة لهذه العمليات جميعا. إن زيادة الطلب على النفط وارتفاع الأسعار وأمن الإمدادات حفزت كذلك الاستثمار في مصادر النفط والغاز غير التقليدية، كرمال القار الكندية والسجيل الغازي ومكامن الغاز الواطئة النفاذية، العالية التكلفة مقارنة مع مصادر النفط والغاز التقليدية.
جميع هذه التطورات التي شهدتها أسواق النفط العالمية في الفترة الممتدة بين عام 2003 وحتى منتصف عام 2008، دفعت الشركات العالمية والوطنية إلى التنافس على استقطاب موارد بشرية وأيدي عاملة ماهرة جديدة من أجل إدامة وزيادة الإنتاج، مما أدى إلى نقص حاد في الموارد البشرية المتاحة في جميع مرافق الصناعة النفطية، الاستخراجية، التحويلية، الخدمات وإنشاء المعدات وبناء المشاريع، ونتيجة لذلك، ارتفعت الأجور وازدادت تكلفة المشاريع. وكانت للإجراءات التي اتخذتها الصناعة النفطية خلال فترات انخفاض الطلب على النفط وانخفاض أسعار النفط آثار سلبية كبيرة في وفرة الموارد البشرية ولم تكن فقط فاقمت من الأزمة، بل كانت أحد أهم العوامل المسببة لها.
والآن وبعد مرور نحو أربعة أشهر على الأزمة الاقتصادية التي عصفت بمعظم دول العالم وخصوصا الصناعية منها، قامت كثير من القطاعات المصرفية والصناعية حتى الخدمية منها بتسريح قسم من العاملين لديها وقد وصلت نسبة البطالة في الولايات المتحدة ذروتها في شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، مع ذلك نلاحظ أن الطلب ما زال قائما على بعض الاختصاصات في الصناعة النفطية وخصوصا تلك العاملة في مجال الحفر والخدمات الحقلية، وذلك على الرغم من قيام عدد من الشركات النفطية بتأجيل أو إلغاء بعض من مشاريعها. وعلى المدى القريب من المتوقع ألا يتأثر واقع العمل والتوظيف في قطاع الطاقة بصورة عامة وفي قطاع النفط والغاز بصورة خاصة كباقي القطاعات. ويعود السبب إلى ذلك لعدة عوامل منها:
القطاع النفطي هو بالأصل يعاني نقصا في الموارد البشرية، إضافة إلى ذلك فإن نسبة المهندسين والعاملين في القطاع المتوقع تقاعدهم قريبا مرتفعة جدا. واستفادة القطاع من دروس الماضي، التي سبق أن تحدثنا عنها. على الرغم من توقع انخفاض الطلب على النفط، فإن العالم لا يزال في حاجة إلى أكثر من 85 مليون برميل من النفط في اليوم وأنواع مختلفة من الوقود لسد حاجته من الطاقة.