ماذا عن التضخم في العام الجديد؟
التضخم مفردة قديمة حديثة بدأنا تردادها في الفترة القريبة كونه بدأ يلامس شغاف جيوبنا ومن ثم التأثير في مستقبلنا الاستهلاكي والاستثماري بل وحتى الصحي والتعليمي. قد لا يُجمع الاقتصاديون على تعريف عام وشامل للتضخم كون أي تعريف يخضع لمدرسة اقتصادية مختلفة، ففي موسوعة ويبيكا الحرة يستخدم مصطلح التضخم لوصف عدد من الحالات المختلفة مثل الارتفاع المفرط في المستوى العام للأسعار، ارتفاع الدخول النقدية أو عائد عنصر من عناصر الإنتاج المختلفة، ارتفاع التكاليف، والإفراط في خلق الأرصدة النقدية. بصورة عامة يرتبط التضخم بالارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار, وإن ارتفعت أكثر من سلعة فلا يعني بالضرورة التضخم. أما ما يطلق عليه تضخم الائتمان أو الدخل أو التضخم النقدي فالمقصود به الإفراط أو الزيادة في أحدهما, وليس شرطاً لوجود التضخم في الاقتصاد الوطني. بنظرة تاريخية يمكن التمييز بين عدد من المدارس الفكرية طبقا لخلفية كل مدرسة. فالمدرسة الكينزية ترى أن زيادة حجم الطلب الكلي على العرض الحقيقي سينعكس إيجابا على المستوى العام للأسعار, وهذا معناه زيادة في الطلب الكلي تفوق العرض الكلي. أما المدرسة النقدية فترى أن التضخم ظاهرة نقدية بحتة ومعناها زيادة في المعروض النقدي الذي سيؤدي إلى زيادة في الطلب الكلي ومن ثم التأثير على الأسعار.
يُمكن التمييز بين نوعين من التضخم، التضخم الزاحف ويعني ارتفاع الأسعار بمعدلات بسيطة وعلى مدى فترة طويلة نسبياً، أما الآخر فهو التضخم الجامح ويتمثل في فقدان النقود قوتها الشرائية بسبب الأزمات الحادة كالحروب. هناك مقاييس يمكن استخدامها لقياس التضخم كالأرقام القياسية لتكاليف المعيشة، معيار الاستقرار النقدي والذي يستند إلى نظرية كمية النقود، ومعيار فائض الطلب الذي يستند إلى نظرية كينز في الطلب الفعال. في حالة الدول النامية بصفة عامة يمكن النظر لأسباب التضخم من زاويتين. الأولى داخلية وهي عبارة عن اختناقات بسبب الاختلال الحاصل بين العرض والطلب الكُليين نتيجةً لتغير أحد أو بعض مكونات الطلب الكلي كزيادة الإنفاق الحكومي مثلا. فمن حيث المبدأ فإن المملكة بلد يعتمد على الاستيراد والتصدير ودرجة انفتاحه على الأسواق الخارجية عالية، إلا أننا نجد في المقابل أن الطاقة الاستيعابية للمملكة كبيرة ولله الحمد، فأي زيادة في الطلب الكلي لن يكون لها ذاك التأثير الكبير والمُخيف على المستوى العام للأسعار. أما الثانية فهي خارجية، ومن المؤكد أن لها الدور الأكبر في التأثير على التضخم المحلي خاصةً في ظل تقلبات أسعار الصرف وارتفاع تكاليف الواردات.
من خلال المعلومات المتاحة فقد وصل التضخم بالمملكة إلى ما يقارب 12 في المائة عام 2008، ومن المتوقع أن ينخفض في عام 2009 إلى ما يقارب 10 في المائة، وبناءً على هذه المعطيات، فهل بمقدور السلطات النقدية المحلية السيطرة على هذا الكابوس؟. لو تتبعنا السياسة النقدية فإن مؤسسة النقد العربي السعودي لديها من الأدوات ما تستطيع به معالجة مثل هذا الوضع خاصةً إذا كانت الأسباب الحقيقية للتضخم داخلية.
من الأدوات الممكن لـ "ساما" استخدامها وبالفعل استخدمتها نسبة الاحتياطي القانوني، وهي نسبة من المبالغ المودعة لدى البنوك التجارية تُقتطع ويتم الاحتفاظ بها لدى "ساما" لغرض مواجهة الظروف الطارئة للبنوك التجارية كشح السيولة, فعندما ترفع "ساما" هذه النسبة فإنها تحد من قدرة البنوك على استثمار المبالغ المودعة لديها في العديد من المجالات الاستثمارية ومنها الإقراض وبالتالي الطلب الكلي ومن بعد المستوى العام للأسعار. أما الأداة الثانية فهي سعر الخصم، وهي رفع لمعدل الفائدة على البنوك التجارية بحيث تحد من قدرة هذه البنوك على الإقراض ومن ثم التأثير في الطلب الكلي ومن ثم على الأسعار.
التضخم وسعر الصرف
بناءً على إحصائيات لصندوق النقد الدولي، كما وردت في العديد من التقارير، فقد قُدرت خسائر العملات الخليجية بين 20 و30 في المائة، إن لم تزد، من قيمتها خلال الخمس سنوات الماضية بسبب ارتباطها بالدولار. على الجانب الآخر، هناك من يرى أن الخسائر الفعلية من هذا الارتباط أكبر، خاصةً في حال استمرار تذبذب الدولار أمام العملات الأخرى وهو ما نشهده بالفعل اليوم.
ولكي نتدارك هذه السلبيات فالرأي الأمثل، هو الربط إلى سلة من العملات من بينها الدولار. فارتفاع عملة من العملات يقابله هبوط في أخرى، وفي المتوسط لن يكون التقلب ذا تأثير كبير في الريال كما لو كان الارتباط بعملة واحدة. هذا يساعد على علاج جزء كبير من التضخم المستورد وهو ما تُعانيه الاقتصادات النامية عموماً كونها مستوردة تقريباً لكل شيء.
#2#
التضخم والأزمة المالية العالمية
لاشك أن الأزمة المالية العالمية قد ألقت بظلالها على الكثير من مناحي الحياة. شكوى الكثير من الاقتصادات العالمية من انكماش الناتج المحلي الإجمالي يعتبر نذير شؤم لحدوث ركود عالمي, ولذا هبت الكثير من الدول إلى توفير السيولة اللازمة لتجنب حصوله ما يُمكن القطاعات الحقيقية من مواصلة دورتها الإنتاجية. من المتوقع خلال عام 2009 ومنتصف 2010 أن تنمو الاقتصادات العالمية بمعدلات متدنية بين 1 و1.5 في المائة، ما يدفع بالمنتجين الصناعيين إلى تخفيض الأسعار تدريجياً، وسيساعد كذلك هبوط أسعار النفط إلى دفع حركة الإنتاج ومن بعد النمو الاقتصادي في الكثير من الأقطار. وباعتبار المملكة بلدا يعتمد على الاستيراد فإن أسعار الواردات سيلحقها نوع من الهبوط الذي قد لا يكون على مستوى التطلعات، لسبب بسيط وهو أن الأسواق لن تُفرط بسهولة في مكتسباتها من الارتفاعات والتي قد تأخذ قرابة العام. على المستوى المحلي وكنتيجة لهذه الأزمة بدأت بوادر انفراج في الأسعار خاصة في الصناعات البلاستيكية والبتروكيماوية، صاحب ذلك هبوط تدريجي ومحدود لأسعار الإسكان بشقيه المساكن والشقق بين 15 و10 في المائة, ومن المتوقع أن تنخفض إلى ما هو أبعد من ذلك خاصة في ظل القيود الائتمانية على المشاريع السكنية في المملكة وغيرها من دول الخليج، حيث بدأت مؤسسات التمويل العقاري الخليجية بالاندماج لمواجهة تداعيات الأزمة، كما وأن الكثير من الشركات العقارية الخليجية قد بدأت بإجراءات احترازية مثل تكملة المشاريع القائمة فعلاً وتأجيل بعض المشروعات الأخرى لحين التأكد من سلامة السوق المالية حتى يتسنى لها تأكيد تنفيذها أو إلغائها وعليه فقد بدأت بعض المؤسسات العقارية الخليجية بتسريح بعض من عمالتها الفائضة.
إذاً المحصلة النهائية انخفاض في الأسعار المحلية خلال 2009 بما لا يتجاوز 2-3.5 في المائة، وستُضطر الدولة ـ رعاها الله ـ إلى تحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين لمواجهة الغلاء بالاستمرار في صرف بدل الغلاء، مع الحرص الشديد على تبني سياسة سعر صرف مغايرة للربط بالدولار، سلة من العملات، لتحقيق الصالح الاقتصادي وبما يكفل تحسين مستوى رفاهية المواطنين.