415 صفحة في قتل الإبداع في جامعاتنا!!

كتاب ليس كالكتب, ليس مرويا ولا مقصوصا ولا موحى ولا حتى تخيليا, فهو رسمٌ مرسوم ونسخٌ منسوخ لا يعدل فيه إلا ما ندر ولا يسأل عن محتواه ولا يناقش مضمونه, فهو كتاب تنتحر في طياته الأفكار وتبكي بين أسطره الأجيال وتغرق بين أحرفه الآمال. لوائح رُكزت
في أرض الإبداع الجدباء, تدل من يرجى منهم الدلالة, وتدير من يرجى منهم التدبير, وتفكر نيابةً عمن يرجى منهم التطوير. لوائح تحدد كيفية التنظيم والترتيب والتنسيق والتدريب .. و.. و .. و إلى حد التفصيل الفارض للتبعة والإتباع والمانع للتفكير والتغيير. لوائح فيها المحظور أكثر من المسموح, خريطة طريق لقتل الإبداع رُسمت في 415 صفحة بعنوان "نظام مجلس التعليم العالي والجامعات ولوائحه", إلا ما استثني بعد جُهدٍ جهيد.
الإبداع المتطلب لمواكبة تحديات الغد ولقاء احتياجات المستقبل, خاصةً في مرحلة التغيير الكبيرة التي نعلق عليها كثيرا من الآمال في التعليم العالي, لن تسهم هذه الأنظمة واللوائح في تطويره. تحدد هذه الأنظمة واللوائح والمواد كل ما يتعلق بإدارة الجامعات, مجالسها, مديريها, وكلائها, كلياتها, عمداء كلياتها, أقسام الكليات والمعاهد, أنظمتها المالية والإدارية والتوظيف والابتعاث والشؤون الدراسية (القبول, التأجيل والانقطاع عن الدراسة, إعادة القيد, التخرج, الفصل من الجامعة, الانتساب, الاختبارات, التحويل من كلية إلى أخرى .. إلخ) وشؤون منسوبي الجامعات (تعيين وترقية, الواجبات, الرواتب والمكافآت والبدلات, الإجازات, التأديب .. إلخ) حتى كيفية تنظيم صناديق الطلبة والجمعيات العلمية!
لم أر أنظمة ولوائح بهذه الكمية والتفصيل في أجهزة تعنى بإنشاء وتطوير مستوى الإبداع العلمي والمعرفي والفكري والإداري. هذا الكم التفصيلي من المواد واللوائح يعني أن الجامعات, وبالذات الجديدة منها, ستكون لها الهيكلة والتركيبة الإدارية نفسها, أي أن الأمر نسخ ولصق, فلا أعتقد أن مديري الجامعات يمتلكون مساحات إدارية كافية لكي ينشئوا جامعات متميزة فكيف لهم التميز وهيكلة الجامعات التي يتولون بناءها مفروضة عليهم ولا يملكون من المرونة إلا ما نجحوا في استثنائه من الوزارة؟ فالأنظمة واللوائح تنص على دور مركزي للوزارة في خطط وقرارات الجامعات الإدارية والأكاديمية, مقيدةً حرية مديري الجامعات في تطوير وتطبيق ما يرونه مناسبا لجامعاتهم. هذا بلا شك سينتج عنه جامعات متشابهة لا تختلف في مستواها الأكاديمي, فهي تشرب من المورد المالي والبشري نفسه ومحكومة بالأنظمة نفسها, وأيضاً يملى عليها عدد الطلبة الذي يجب قبولهم وتسجيلهم في كل سنة حتى إن كانت هذه الجامعات لا تملك حرماً جامعياً ولا تزال تعمل في مبان مستأجرة غير مناسبة لخلق البيئة الجامعية المهمة في تطوير الأجيال السعودية. ثم كيف يتم تحديد عدد الطلبة السنوي من قبل الوزارة وإدارة الجامعة تعرف مقدرتها الاستيعابية ومدى تأثير ذلك في مقدرتها البحثية؟ أكاد أجزم أن بعض الجامعات أُغرقت بأعداد كبيرة من الطلبة محولةً هذه الجامعات إلى ما يشبه ثانوية جامعية لا يوجد للبحث العلمي فيها إلا ما رحم الله, خاصةً الجامعات الجديدة. أي أن كل المليارات التي صرفت على هذه الجامعات ستذهب هباء.
لماذا الحاجة إلى كل هذا الكم التنظيمي البيروقراطي؟
كثرة المواد واللوائح والأنظمة خلقت وَحلا يصعب على الجامعات الخروج منه إلا من بعض الجامعات التي تنعم بالحضانة الخاصة من الوزارة مثل جامعة الملك سعود التي تنعم بدعم كبير لميزانيتها البحثية. لماذا تربط مجالس الجامعات بالوزير نفسه؟ ولماذا لا تستطيع الجامعات تعيين مستشارين في مجالسها إلا بموافقة الوزارة؟ لماذا لا تعطى الجامعات حرية تامة لتطوير الأنظمة والهيكلة التي تراها مناسبة لها فهي تدار بكفاءات سعودية توازي أو تفوق من حوتهم جدار الوزارة؟ ولماذا لا يعطى للجامعات حق تعيين مستشارين من داخل المملكة وخارجها, فلدينا من ذوي الخبرة المبدعين الكثير من أكاديميين ووزراء وإعلاميين ومثقفين وعسكريين ممن لهم القدرة على تعزيز مقدرة الجامعة التخطيطية والإدارية؟ في جامعة مانشستر, على سبيل المثال, قبل سنوات تم تعيين مدير للجامعة بواسطة الجامعة وليس الوزارة. قام هذا المدير بإحداث تغييرات كبيرة جداً تمت من خلالها إعادة هيكلة الجامعة وأهدافها بشكل كبير تضمن كل الكليات والأقسام. لم يرجع هذا المدير إلى الوزارة أو أي جهة في الحكومة البريطانية بل عمل مع مجلس الجامعة الذي يحتوي عديدا من أهل الخبر من داخل الجامعة وخارجها.
النظام الجامعي ليس مواد ولوائح وقوانين بل ثقافة وبيئة مفعمة بالتفاعل الأكاديمي المفتوح بين كل من دخل أسوارها. الجامعات أرض فكر متحرر إبداعي يهدف إلى التطوير والرقي بمستوى الفهم والمعرفة ليعم خارج أسوارها في أجزاء المجتمع المختلفة.
الجامعات تحكمها وتنظمها القيم الأكاديمية السامية وليس الأنظمة الحكومية البيروقراطية القاتلة لروح الإبداع الأكاديمي.
بناء الجامعات وتطويرها لا يقتصر على تشييد المباني والحرم الجامعي بل يعتمد على المقدرة في تشييد معرفة وفكر مختلف وعقول مبدعة. إدارة أي جامعة لا تحتاج إلى من يطبق الأنظمة واللوائح بل إلى من يغيرها ويتمرد عليها, فالروح والغاية الأكاديمية لا تحتاج إليها!! حان الوقت لنقاش علاقة وارتباط الجامعات بالوزارة والنظر في كيفية إعطاء الجامعات ومديريها سلطة أكبر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي