ميزانية الأجواء المفتوحة
تصدر الميزانية التقديرية للدولة للعام المالي 2009 في ظل ظروف اقتصادية صعبة للغاية، أولاً بسبب الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالاقتصاد الدولي، وثانياً لسلسلة الانخفاضات التي لحقت بأسعار البترول حتى أصبح سعر البرميل الواحد يحوم حول مبلغ 40 دولاراً.
ولكن ـ مع ذلك ـ استطاع مهندسو الميزانية في وزارة المالية أن يصمموا بنود الميزانية بحنكة وخبرة من يسـتطيع أن يسـتوعب كل المتغيرات والتغيرات المحلية والدولية.
ولذلك روعي في وضع ميزانية الدولة التقديرية للعام المالي 2009 كل الظروف الصعبة التي سـيواجهها الاقتصاد الدولي بعامة، والاقتصاد السعودي بخاصة.
إن المتابع لأرقام الميزانيات الحكومية في المملكة للسنوات الـ 30 الماضية يجد أنها تعكس المعطيات الاقتصادية لكل سنة من تلك السنوات الـ 30 والتي ارتبطت بشكل كبير بتحركات أسعار النفط صعوداً وهبوطاً وبأسعار الدولار عملة تسعير النفط، وهذا الارتباط تعكسه حقيقة كون النفط المصدر الرئيس للدخل الوطني السعودي، حيث أنه يمثل ما نسبته 80 في المائة (تقل أو تزيد) من إيرادات الدولة، كذلك تمثل الصادرات النفطية نحو 75 في المائة من صادرات المملكة التي تمثل بدورها نحو 10 في المائة من حجم الطلب العالمي على النفط . لقد كان تقدير سعر برميل النفط المستهدف في ميزانية 2007 مبلغ 22 دولاراً، بينما كان السعر المستهدف للبرميل في ميزانية عام 2003 مبلغ 17 دولاراً، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الحيطة والحذر حتى لا نقع في فخ الانخفاضات غير المحسوبة .
وبقراءة متأنية للأرقام الواردة في الميزانية نجد أن الميزانية هي محاولة لاسـتمرار تنفيذ برامج ومشاريع التنمية المستدامة رغم كل المصاعب التي يتوقعها خبراء البنك الدولي في العام المالي 2009.
إن الأرقام التي حفلت بها ميزانية هذا العام تؤكد أن الدولة ـ حفظها الله ـ تريد أن تسارع الخطى للإجهاز على المشكلات التي عاناها الإنسان السعودي حينما كانت الميزانية التقديرية للدولة تصدر ممولة بالعجز .
ويوضح تقرير وزارة المالية مجموعة من المحطات المهمة على طريق تحقيق المزيد من مشاريع التنمية والتطوير، بمعنى إن الميزانية تعد برنامج إنفاق استثماريا امتدادا لبرنامج السنوات السابقة، وهدفه تعزيز تنفيذ البرامج التي تهدف إلى رفع معيشة الإنسان السعودي ودفعه إلى مستوى أعلى من الرفاهية.
إن الاستمرار في اعتماد هذا الحجم من الإنفاق الحكومي نحو الاستثمار الوطني سيزيد من حيوية ونمو الاقتصاد الوطني ويوسع قاعدته الإنتاجية لا سيما في زمن الأزمة المالية العالمية، كما أن مشاريع البنى التحتية التي أولتها ميزانية هذا العام اهتماما أكثر من أي عام مضى .. ستساعد على تحقيق الرخاء وتقضى على كثير من المشكلات التي عاناها المجتمع في العام الماضي.
وما يلفت النظر هو أن الشعار الذي سبق أن رفعه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أنه لا عذر أمام الموظفين الحكوميين بعد أن وفرت الدولة لهم المال اللازم.. هذا الشعار أصبحت له دلالاته الموضوعية في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى.
ولكن ـ مع ذلك ـ يظل الخوف من التخلف الإداري وارداً ولا سيما أن عديدا من المشاريع المعتمدة في ميزانية العام الماضي تعثر تنفيذها بسبب ترهلات إدارية في بعض قنوات المؤسسات الحكومية التي مازالت تورط نفسها في تعقيدات الإجراءات الروتينية التقليدية، كما أن عجز الكثير من المؤسسات عن تحقيق تقدم ملحوظ في مشاريع الحكومة الإلكترونية ـ كما أشارت إلى ذلك وزارة الخدمة المدنية ـ تسبب في بطء تنفيذ البرامج والمشاريع التنموية.
ولا شك إن هذه المؤسسات تحتاج إلى إعادة هيكلة أو تحتاج إلى إعادة اختراع كما قال بذلك المفكر المعروف ديفيد أسبورن.
لقد أدركت الحكومة الرشيدة أن ضعف الكفاءة الإدارية لدى بعض البيروقراطيين حجب عديدا من المشاريع عن التنفيذ، ولذلك فإن الميزانية التقديرية للعام المالي 2009 ركزت على مجموعة من التدابير والبرامج التدريبية المتعلقة بتأهيل وتحسين الكوادر البشرية في جميع المؤسسات الحكومية وبالذات المؤسسات المسؤولة عن الخدمات.
لقد بلغ عدد ما تم توقيعه من عقود لتنفيذ المشاريع التي طرحت خلال العام المالي الحالي وتمت مراجعتها من قبل الوزارة 2500 عقد تبلغ قيمتها الإجمالية 120 ألف مليون ريال مقارنة بمبلغ 83 ألف مليون ريال في العام المالي السابق 1427/1428 بزيادة نسبتها 45 في المائة، وتشمل هذه المشاريع ما تم تمويله من فوائض الميزانيات الثلاث الماضية.
لقد بلغ ما تم تخصيصه لقطاع التعليم العام والتعليم العالي وتدريب القوى العاملة نحو 122.100.000.000 مليار ريال. ففي مجال التعليم سيستمر العمل في تنفيذ مشروع الملك عبد الله بن عبد العزيز لتطوير التعليم "تطوير" البالغة تكاليفه تسعة آلاف مليون ريال، وقد صدر أخيرا قرار من مجلس الوزراء بالموافقة على الترخيص بتأسيس شركة "تطوير التعليم القابضة" برأسمال مقداره 100 مليون ريال. ولغرض توفير البيئة المناسبة للتعليم وزيادة الطاقة الاستيعابية للمدارس والجامعات والكليات المتخصصة تضمنت الميزانية اعتماد إنشاء 1500 مدرسة جديدة للبنين والبنات في جميع المناطق إضافة إلى المدارس الجاري تنفيذها حالياً البالغ عددها 3240 مدرسة، وما تم الانتهاء من تنفيذه وعددها أكثر من 1100 مدرسة, وتأهيل وتوفير وسائل السلامة لألفي مبنى مدرسي للبنين والبنات, وإضافة فصول دراسية للمدارس القائمة, وتأثيث المدارس وتجهيزها بالوسائل التعليمية ومعامل وأجهزة الحاسب الآلي, وكذلك إنشاء مباني إدارية لقطاع التعليم العام.
وفي مجال التعليم العالي تضمنت الميزانية اعتمادات لاستكمال إنشاء المدينة الجامعية للطالبات والمدينة الطبية لجامعة الملك سعود، وكذلك إنشاء المدينة الجامعية للطلاب في جامعة الملك خالد بتكاليف تجاوزت 12 ألف مليون ريال، إضافة إلى استكمال المدن الجامعية للجامعات القائمة، وتجهيز المعامل والمختبرات, وافتتاح وتشغيل 41 كلية جديدة.
كما تفضل خادم الحرمين الشريفين ـ يحفظه الله ـ بوضع حجر الأساس لإنشاء جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن، وتجري حالياً الترتيبات لبدء التنفيذ، وتم توقيع عقد منشآت جامعة الملك سعود بن عبد العزيز للعلوم الصحية وفروعها.
لقد تضمنت الميزانية برامج ومشاريع جديدة ومراحل إضافية لبعض المشاريع التي سبق اعتمادها تزيد تكاليفها الإجمالية عن 225 ألف مليون ريال مقارنة بتكاليف بلغت 165 ألف مليون ريال بميزانية العام المالي السابق 1428/1429 بزيادة نسبتها 36 في المائة، كما تمثل نحو ثلاثة أضعاف ما اعتمد في العام المالي 1425/1426 الذي يصادف السنة الأولى من خطة التنمية الثامنة.
وتتوقع الميزانية بأم يبلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي هذا العام 1428/1429 (2008م) وفقاً لتقديرات مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات 1.753.500.000.000 ألف وسبع مئة وثلاثة وخمسين ملياراً وخمس مئة مليون ريال بالأسعار الجارية محققاً بذلك نمواً نسبته 22 في المائة مقارنة بنسبة 7.6 في المائة للعام السابق، وأن يُحَقِّق القطاع النفطي نمواً نسبته 34.9 في المائة بالأسعار الجارية. كما يتوقع أن يحقق القطاع الخاص نمواً نسبته 8 في المائة بالأسعار الجارية.
إن ميزانية الدولة تؤكد – بما لا يدع مجالاً للشك - أن الاقتصاد السعودي من المتانة بحيث يستطيع مواجهة الأزمة المالية العالمية وتوابعها المتلاحقة. ولقد أكد صندوق النقد الدولي خلال مناقشة مجلس إدارته في تموز (يوليو) لعام 2008م متانة اقتصاد المملكة وَثمَّن السياسة المالية العامة للمملكة وانفتاح نظامها التجاري ودورها في استقرار السوق النفطية.