مادوف بـ "العربي"!

"لا توجد ظاهرة أخلاقية، لكن هناك تفسيرا أخلاقيا للظاهرة "
الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه

لم أستطع تجاهل القاسم المشترك، بين "المستثمر" الأمريكي برنارد مادوف المستشار في بورصة "وول ستريت" الأمريكية، والرئيس السابق لمجلس إدارة البورصة الإلكترونية "ناسداك"، ورئيس عشرات الشركات "الاستثمارية".. وبين سمسارة توظيف الأموال الذين انتشروا كالسرطان العدواني (هناك سرطان غير عدواني) في عدد من الدول العربية (ولاسيما مصر) في ثمانينيات القرن الماضي. فالطرفان سرقا واحتالا وبددا أموالا ليست لهما، ووضعا مستقبل الضحايا في المجهول، ونشرا آلاما معيشية يصعب خفض أنينها، وأثبتا مرة أخرى أن الأخلاق الغائبة عن أروقة السوق، تضرب بوحشية أركان المجتمع، وكشفا في الوقت نفسه أن الطمع ليس حكرا على الأثرياء، بل يأخذ فقراء تحت جناحيه. وإذا كانت هناك فوارق بين الطرفين. فالفارق الأول: أن "مادوف الأمريكي" ضيع وسرق أموالا لمؤسسات هي في الواقع أموال لأفراد، بينما "المادوفون العرب" ـ إن جاز التعبير ـ ضيعوا ونهبوا أموال أفراد يبحثون عن 100 دولار إضافي لمواجهة متطلبات الحياة. والفارق الثاني: أن الأموال التي تبخرت بين أيدي الأمريكي، كانت أكبر بكثير من تلك التي نهبها العربي، نظرا لاختلاف حجم ووزن "المستثمرين"، بل ونوعيتهم. والفارق الثالث: أن الأمريكي كان يعمل متسلحا برخص رسمية احتال بها على أكبر مكاتب ولجان المراقبة المالية، أما العربي فقد عمل دون رخص، محتالا على كل القوانين الحكومية. والفارق الرابع: أن الأمريكي جمع أموال المؤسسات وأفراد كبار من خلال شركات، أما العربي فقد جلب أموال الأفراد عن طريق سمسارة متسكعين في المقاهي وفي أزقة الأحياء الشعبية، بل وفي شوارع الأحياء الغنية أيضا. أما الفارق الأخير: فإن المتضررين من الأمريكي، اختبروا صدمة لم يفيقوا منها حتى الآن ـ ولن يخرجوا منها بسرعة - بينما قابلها في حالة العربي، نواح أرملة هنا، وانهيار رب أسرة هناك، وحسرة طالب يسعى إلى تحصيل علمي، وبكاء طفل لا يحتاج إلا إلى علاج، أو حتى إلى عملية جراحية بسيطة للتخفيف من آلامه.
#2#
وإذا كنت أرغب في أن أكون مجانبا للإنصاف، لا يمكنني بأي حال من الأحوال، أن أُحيِِِِِد الطمع الذي أصاب الأفراد البسطاء في الجانب العربي ـ رغم أن طمعهم ينحصر في الحصول على أساسيات معيشية مفقودة ـ ولا يمكن أن أتجاهل الأخلاق المفقودة عند كل من "المادوفين الأمريكي والعربي". فقد أثبت "المادوف العربي"، أنه يمكن اصطناع الأخلاق ـ بما في ذلك الدينية منها- لكنه برهن بوضوح على أنه أدنى من أن يعمل بها. وكذلك الأمر عند "المادوف الأمريكي". فلا الأخلاق الدينية عرفها، ولا هو فهم الأخلاق المدنية. والنتيجة أن السلطات الأمريكية لم تحصل إلا على 300 مليون دولار أمريكي، هي مجموع أصول "المادوف الأمريكي"، الذي نهب أكثر من 50 مليار دولار، وغرر بأكثر من 60 شركة ومؤسسة ومصرفا حول العالم، بينما بلغت أصول "المادوف العربي" ـ في الحالة المصرية ـ 10 في المائة فقط من مجموع أموال عشرات الآلاف من الأسر، التي وصلت إلى أكثر من مليار و137 مليون جنيه مصري. ولكي تزيد الكارثة إعصارا آخر، فإن محنة هذه الأسر لم تحل إلا بعد مرور 15 عاما على انكشاف أمر السمسارة. ولاشك أن محنة المتضررين من "مادوف الأمريكي"، لن تكون أقصر.
لقد أخذت الحالة المصرية كمثل للكوارث التي تسبب فيها سماسرة القهر في العالم العربي. فالمشهد هو.. هو في سورية والأردن ولبنان والجزائر وغيرها من الدول العربية. والمصيبة أن مجتمعات أخرى في العالم العربي ـ بما في ذلك دول الخليج- لم تتعلم من هذه الكوارث. فقد انضمت هي الأخرى في السنوات القليلة الماضية، إلى الجوقة ـ ولو بشكل مختلف - وقام أفراد ـ وحتى جماعات - بتخزين اللحم في جحر الذئب!. واندفعوا إلى السمسارة الذين تحولوا في هذه الحالة إلى شركات (بل ومؤسسات)، تحت سيطرة وهم الربح السريع والآمن، ورفضوا أن يقبلوا بحقيقة أن الاستثمار ـ مهما كان آمنا ـ هناك جوانب سلبية له، وأن السوق ـ أي سوق - التي يلعب فيها الرابحون، يلعب فيها أيضا الخاسرون، وأن الحصول على رأس المال ـ متى شاءوا - يشبه استعادة الغزال من فم الأسد. ومهما اختلفت صيغ توظيف الأموال هذه، عن صيغ التوظيف في ثمانينيات القرن الماضي. فالنتيجة واحدة. وعلى الرغم من تحرك بعض الحكومات ـ ولاسيما في دول الخليج ـ من أجل توعية الباحثين عن الربح المريح، إلا أن "المستثمر الواهم" تجاهل كل عناصر التوعية، ولم ير أمامه سوى عرض بالحصول على 10 في المائة شهريا ـ على الأقل - على المبالغ التي يقدمها لشركات السمسرة، واستعادة رأسماله وقتما شاء. فالمحافظ "الاستثمارية" صارت أكثر من محال البقالة، والعروض الوهمية الخبيثة، سادت الساحة بصورة أكبر من مواسم التنزيلات التي تطلقها المحال التجارية على مدار العام. وأيضا.. وعلى الرغم من تحول حملات التوعية الحكومية إلى تحذيرات واضحة من التعامل مع الأشخاص أو شركات توظيف الأموال غير المرخصة من الجهات المختصة، إلا أن الواهمين واصلوا تسليم أموالهم طواعية إلى هذه الجهات.
إنها اللعبة التي ينصهر فيها الطمع مع اضمحلال الأخلاق - بل لنقل مع غيابها-، وهي الطريقة الوحيدة التي تحصل فيها الضحية على أقصر ابتسامة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي