درهم وقاية خير من قنطار علاج

حتى الآن لم تظهر جميع ذيول أزمة الائتمان الدولية، فالأسوأ لم يأت بعد. بيد أنه بات واضحا أن الاقتصاد العالمي أخذ ينزلق بسرعة نحو كساد عام سيبقى طيلة عام 2009، هذا عند أكثر المراقبين تفاؤلا. أما عند المتشائمين، فقد يمتد الكساد لثلاث أو أربع سنوات، وربما حتى أطول! اعتمادا على كيفية علاج الولايات المتحدة للأزمة. فإذا تركزت الجهود على اقتلاع الأسباب الحقيقية للأزمة، كان الحل أجدى وأسرع.
يوما بعد آخر يتأكد أن الأزمة في حقيقتها هي أزمة نظام بالدرجة الأولى. فهذا البروفيسور جوزيف ستيجليتز أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا وأحد الحائزين على جائزة نوبل في الاقتصاد، يؤكد في واحدة من مقالاته الأخيرة، على أنها أزمة نظام . بسط البروفيسور ستيجليتز في مقاله خمسة أخطاء ارتكبتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة خلال العقود الثلاث الماضية، يجمعها كلها عنوان واحد وهو فشل النظام ذاته في تحقيق الاستقرار المنشود، ودون الاعتبار من هذه الأخطاء لن ينهض الاقتصاد الأمريكي والعالمي من كبوته.
إن ما يجري اليوم أكبر بكثير من تراجع اقتصادي دوري! فمنذ منتصف أيلول (سبتمبر) الماضي حدث ما يشبه السكتة القلبية للاقتصاد العالمي! إذ تعطلت المدفوعات والتسويات بين المصارف، وتراجع حجم المعاملات في الأسواق العالمية. أصبح النظام العالمي في وضع تفتقر فيه المصارف إلى السيولة، وإن وجدت كانت تكلفة استخدامها عالية، والنتيجة أن قلة التمويل مع ارتفاع تكاليفه ولدت مزيدا من الضغوط والاختناقات على صناعات عديدة يعتمد بقاؤها على استمرار توافر التسهيلات التمويلية للمشترين. منها صناعة الإسكان وجميع صناعات السلع المعمرة من السيارات والأجهزة المنزلية، هذا فضلا عن كل ما يرتبط بهذه القطاعات من الصناعات السابقة واللاحقة لها.
النظام السيئ يوجد بيئة صالحة لانتشار الممارسات اللاأخلاقية. وقد بتنا نكتشف يوما بعد آخر أن من كان ينظر إليهم كحماة للنظام وحراس للفضيلة المالية، باتوا هم لصوصه ومجرميه. نعم إنها جريمة كما وصفها نسيم طالب أستاذ هندسة المخاطر في معهد البوليتكنيك في جامعة نيويورك، وزميله بابلو تريانا استشاري المشتقات المالية. فبعد المكافآت الضخمة التي حصل عليها رؤساء البنوك المسببة للأزمة، نفاجأ اليوم بدور برنارد مادوف الرئيس السابق لبورصة ناسداك، الذي التهم 50 مليار دولار من بنوك أمريكية وعالمية من خلال صندوق الاحتيال الذي أنشأه تحت اسم صندوق الاستثمار والوساطة المالية في بورصة وول ستريت، وذلك في أكبر عملية احتيال مالي في تاريخ البشرية!
لقد أصاب مدعو الحفاظ على حرية الأسواق، هذا النظام في مقتل! عندما منعوا الضوابط الابتدائية، ثم اندفعوا كالمجانين لإصلاح الكارثة بالتدخل في تصرف مناقض لأصل دعواهم. إن معظم الأخطاء تعود لجوهر واحد: وهو الاعتقاد المطلق لدى بعض المسؤولين أن الأسواق كفيلة بتصحيح نفسها، وعليه يجب تحجيم دور الحكومة لأدنى مستوى. وهي السياسة التي تبنتها عدة إدارات جمهورية متعاقبة في العقود الثلاثة الأخيرة بدعوى المحافظة على الحريات وتشجيع الابتكارات. ثم اخلص في تبنيها وتنفيذها الرئيس السابق لبنك الاحتياط الأمريكي آلان جرينسبان. لكن أمام هذه الكارثة لم يجد الرجل بدا من الاعتراف أخيرا أمام الكونجرس بخطأ سياسته. حتى أن عضو الكونجرس هنري واكسمان أعاد عليه في جلسة الاستماع، قائلا : إذا أنت الآن وجدت أن وجهة نظرك، وفلسفتك لم تكن صائبة؟ فأجاب جرينسبان: نعم بالضبط وبكل تأكيد!
ما الذي يجعل كارثة بهذا الحجم تحدث في بلد متطور ومتحضر وزاخر بالعلماء والأنظمة كالولايات المتحدة! ألم يكن من الممكن تجنب هذه الخسائر الهائلة والآثار الطاحنة بالبعد عن الرعونة والعناد، والاحتكام للضوابط المانعة ابتداء للانحرافات الأخلاقية الفردية، حماية لأصل النظام وصيانة لاستقرار الاقتصاد؟ باختصار العالم يمر بمرحلة تحول تاريخي تستدعي تغيرات وإصلاحات هيكلية في النظام الاقتصادي. الأزمة تعلمنا أنه لا يكفي أن تكون متعلما ومتحضرا فقط، بل لا بد أن تكون أيضا متخلقا بقيم متوازنة وعادلة لتكون مؤهلا للقيادة. وللحديث صلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي