كلام "جرايد"!
كثيراً ما أقف مندهشاً أمام بعض العبارات التقليدية المضحكة التي توردها بعض الصحف السعودية في مقدمات التحقيقات والتقارير الاجتماعية المنشورة فيها, وسر دهشتي يكمن في طريقة تعامل الخطاب الصحفي مع القارئ كـإنسان غريب عن المجتمع, أو في أفضل الأحوال كإنسان يعيش في غيبوبة اجتماعية بحيث لا يدرك ما الذي يدور حوله, وإن افترضنا حسن النية في هذه القضية فيمكننا أن نقول إن كتّاب هذه التحقيقات والتقارير لديهم تصور مغلوط للخطاب الصحفي يفرض عليهم التعامل مع القاريء كقاصر بشكل يشبه إلى حد كبير تعامل معلم المرحلة الابتدائية مع تلاميذه الجدد!
بالأمس القريب توقفت أمام تحقيق اجتماعي نشرته إحدى الصحف السعودية عن ظاهرة العنف الأسري في المجتمع, وحتى تكونوا في الصورة فسأورد بعض ما جاء في مقدمة التحقيق المعني.. كتب الأخ الصحفي ما نصه:
"علامات استفهام كثيرة قفزت إلى الأذهان من خلال "ظواهر" جديدة بدأت تطل من نوافذ المجتمع السعودي.. وهي ظواهر لم يكن لها أي وجود في سطح هذا المجتمع حتى إلى وقت قريب من الزمن.. وكان أكثرها التفاتاً للنظر تلك الظاهرة التي انتشرت على شكل تصرفات وحشية لا تمت لطبيعة الإنسان السعودي بأية صلة.. وهي ظاهرة "العنف الأسري"!!
حسناً بعيداً عن أخطاء الصياغة التي جعلت (لم يكن) تصبح (لم تكن) وجعلت (أكثرها لفتاً للنظر) تصبح (أكثرها التفاتاً للنظر), لنتأمل المعلومات الواردة في هذا الخطاب الصحفي المقدم على طبق من ورق للقارئ, ثم لنسأل هل ظاهرة العنف الأسري ظاهرة جديدة فعلاً ولم يكن لها أي وجود في المجتمع؟!
إن ظاهرة كهذه تعد من أقدم الظواهر الاجتماعية في التاريخ, ولا يوجد أي مجتمع إنساني على هذا الكوكب يخلو منها, بل إنها شهدت انخفاضاً كبيراً مع التقدم الحضاري الذي شهده المجتمع, أي أن الظاهرة كانت موجودة بشكل أكبر وأشرس في الماضي, وفي مجتمعنا تحديداً, فكيف بالله عليكم يمكننا أن نتقبل طرحاً صحفياً يستخف بالقارئ إلى هذه الدرجة؟
إنني أعتقد أن طرحاً كهذا لم يأت نتيجة جهل أو حتى (فهلوة) وإنما ينبعث من قاعدة راسخة في العقل الباطن لمعد التقرير هي (القديم أفضل دائماً), وهذه القاعدة الهشة في حقيقتها تشكل ظاهرة اجتماعية هي أحق بالدراسة والمناقشة من غيرها, وهذا ليس تقليلاً من شأن ظاهرة العنف الأسري بالطبع, لكننا بحاجة ماسة إلى النظر إلى جميع الظواهر الاجتماعية وفق تقسيم يصورها كدوائر صغرى داخل دوائر أكبر منها, ومن ثم البدء بمناقشة ودراسة الدائرة الأكبر نزولاً إلى غيرها لنتمكن من تفكيك الشيفرة الخاصة بكل ظاهرة, فعلى سبيل المثال عندما نريد التحدث عن ظاهرة الكذب لدى الأطفال, يجب أن نناقش أولاً ظاهرة الخوف لديهم, وقبل أن نتحدث عن ظاهرة السرقة, يجب أن نتحدث عن ظاهرة الفقر وهكذا.
وعود على نوعية الخطاب الصحفي المشابه لما سبق والمستخدم في التحقيقات الاجتماعية في بعض الصحف السعودية.. لابد أن أشير إلى أن هذه الصحف بحاجة إلى مراجعة طريقة طرحها في هذا المجال حتى لا تخسر قارئها, فالقارئ لن يقبل بأن يكون ساذجاً إلى هذه الدرجة حتى وإن لم يصرح بذلك, فالمسألة هنا نفسية وأحياناً تكون حالة الرفض لاشعورية, وهذا يعني أنه من غير الجدير بنا الاستغراب عندما يتداول الناس في أحاديثهم العبارة المشهورة (كلام جرايد)!