العالم يتجه لترتيبات جديدة!

لم تستطع الأنظمة الاشتراكية أن تصمد كثيرا على الرغم من بريقها الذي ساد في كثير من دول المعسكر الشرقي والدول النامية ابتداء من الحرب العالمية الثانية. اعتمدت تلك الأنظمة على فكرة العدالة الاجتماعية لتسويق فلسفتها ودغدغة عواطف الجماهير. وبالرغم من الأهمية البالغة لمسألة العدالة في حياة الشعوب، إلا أن مصير الاشتراكية كان محكوما عليه بالفشل لارتكازه على آليتين مصادمتين للفطرة: وهما التخطيط المركزي والملكية الحكومية. فقد أدى المنع المطلق للملكيات الخاصة إلى تدهور كفاءة الأنشطة الاقتصادية، وانتفاء دوافع المحافظة على الموارد والقضاء على روح الإبداع والابتكار. في حين أدى الاعتماد على التخطيط المركزي بدلا من حرية تفاعل قوى العرض والطلب في الأسواق إلى سوء استخدام الموارد وإلى انتشار الفساد. ثم كانت محصلة كل ذلك إما حدوث فائض في إنتاج بعض السلع وإما عجز في بعضها الآخر. كان هذا هو الحال من حيث الكم، أما من حيث النوع فقد كانت السلع السوفياتية على سبيل المثال أقل كفاءة بكثير من مثيلاتها اليابانية أو الأمريكية. ولا شك أن غياب الحريات كان له دور رئيس في الفشل الاقتصادي لكثير من المجتمعات الاشتراكية ذات الطابع الشمولي.
وفي حين نجحت المجتمعات الرأسمالية في تحقيق قدر عال من كفاءة الأنشطة الاقتصادية لاعتمادها على مبدئي الفردية والحرية، إلا أنها كانت في حاجة لوضع ضوابط على طغيان فلسفة الحريات المطلقة، والمبالغة في الاعتماد على آليات السوق لجعل الرأسمالية أكثر إنسانية وعدالة. وقد ترتب على غياب هذه الضوابط تشوهات في هيكل توزيع الدخول والثروات، وقاد لتقلبات مستمرة في الأنشطة الاقتصادية، كان بعضها شديدا ومؤلما، ككساد عام 1929م، والكساد الحالي المتوقع استمراره لأعوام مقبلة. بيد أن ما ميز المجتمعات الرأسمالية عن المجتمعات الاشتراكية هو تمتعها بالحريات التي ظلت تسمح لها بتعديل أخطائها، حتى وإن تم هذا التعديل بثمن فادح يتحمله عامة الناس وينجو منه الأثرياء.
لقد غدا واضحا أن العالم أمسى بحاجة ماسة إلى نظام متوازن يحافظ على آليات الكفاءة الاقتصادية اللازمة لنمو الاقتصاد، مع تبني آليات جادة لضمان مستويات معقولة من العدالة اللازمة لاستقرار المجتمعات. إن تسارع الأحداث اليوم وتضافر الشواهد يدلان على أن العالم يمر بواحدة من أهم نقاط التحول التاريخي الكبرى، التي لا تقل من حيث الوزن والأهمية والآثار، عن حدث انهيار الاتحاد السوفياتي وبقية منظومة الأنظمة الاشتراكية قبل نحو 18 عاما. وقد عبر عن حجم هذا الحدث مقال نشر في صحيفة "التايمز اللندنية" الأسبوع الماضي بعنوان "انهيار تاريخي، بحجم انهيار الشيوعية" كتبه روبرت بيستون. وأكد فيه كاتب المقال أن إنقاذ الرأسمالية يتطلب أن تتحول إلى نظام أكثر رحمة ورقة، وأن تكون أقل شبها بكازينو القمار، حيث الرابح يأخذ كل شيء.
المثير في المقال - بالنسبة لي - هو أن كاتب المقال أكد ما كنت أردده على طلبتي طيلة السنوات التي تلت انهيار الاشتراكية من أن الرأسمالية ذاتها في حاجة ماسة لتعديلات جوهرية تجعلها أكثر انضباطا وأوفر عدالة وأقل تغريبا من تلك التي كانت سائدة في السنوات الـ 30 الماضية. ويبدو أن العالم في طريقه لتبني ترتيبات جديدة. لكن كيف يمكن أن نسهم فيها؟ نواصل في الأسبوع المقبل بحول الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي