رأسمالية هجينة بالاشتراكية .. هل هي إيذان باضمحلال الرأسمالية؟

رأسمالية هجينة بالاشتراكية .. هل هي إيذان باضمحلال الرأسمالية؟
رأسمالية هجينة بالاشتراكية .. هل هي إيذان باضمحلال الرأسمالية؟

تعرضت قوة الولايات المتحدة للتقليص بعدما كانت تعد نفسها عظمة (اللحظة الزمنية أحادية القطب), وإن كانت لا تزال تمتلك موجودات ومواطن قوة لا مثيل لها.
قادت الولايات المتحدة العالم بعيدا عن سياسات الاستقلال والاكتفاء الذاتي التي كانت سائدة في ثلاثينيات القرن الماضي على يد فرانكلين روزفلت وهاري ترومان, وكلاهما من الحزب الديمقراطي, وتواجه الآن تحديا من خلال سبل المحافظة على أعظم إنجازاتها, وهو الاقتصاد العالمي المفتوح .
لكن لا بد أن تدير الولايات المتحدة ظهرها للعالم الذي عملت على تشكيله ولو مؤقتا بعدما أن وصل فائض القطاع الخاص إلى 6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي حتى أصبح العجز في المالية العامة في حدود 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
وعندما يكون القطاع الخاص فيها مديونية عالية، فإن العودة إلى حالات العجز المالي الكبير في القطاع الخاص يمكن أن يكون أمرا سيئا جدا .
فكيف تقود الإدارة الأمريكية الجديدة العالم؟ فأمريكا من الصعب أن تستوعب البلدان ذات الفائض الضخم والمزمن، فالصين تمتلك احتياطات تصل إلى تريليوني دولار مقابل ديون للولايات المتحدة تصل إلى عشرة تريليونات دولار فعليها أن تستوعب فهم النقطة التي كانت تشغل بال جون مينارد كينز بأن المخرج أمام معظم البلدان ذات الفائض هو زيادة الإنفاق في الداخل. فالتوسع الذي أبدته الصين ودول أخرى في العالم, بما فيها السعودية, بداية الطريق، أي لا بد أن تتجه الإدارة الأمريكية الجديدة بصفقة تحفيز عالمية في المالية العامة.
والتأم جمع كبير من قادة العالم في البيت الأبيض لأول مرة في التاريخ الحديث (قمة العشرين) لإعادة صياغة الرأسمالية لأنها فشلت وبدأت المنظمات العالمية تطالب بالعدالة وهي تدرك أن الذين سببوا الكارثة لن يقدروا على حلها.
ولكن ما بدائل النظام الاقتصادي العالمي كي تقدم رؤية جديدة تؤسس وتنظم حتى لا يتكرر ما حدث مرة أخرى؟
فالمنظمات العالمية تطالب بتقديم مصالح الناس وتلبية حاجاتهم الأساسية على مصالح السياسيين والشركات العالمية.
والتاريخ نادرا ما يتنقل في خطوط مستقيمة، وإلى عهد قريب كانت القطبية الأساسية هي الندرة وارتفاع أسعار الطاقة والسلع، ولاحت على أثرها بوادر نقص في المواد الغذائية، بينما الآن أصبحت الأسعار تهبط في كل مكان ويتلاشى التضخم ويحل محله الانكماش الاقتصادي، وأصبح المهدد الأكبر بعدما كان يسود التضخم.
وقبل سنوات قليلة كان يقال عن الولايات المتحدة بأحادية القطب والهيبة الأمريكية المطلقة على العالم، بينما الآن تواجه الإفلاس وصدمة اقتصادية حادة لم تشهد مثلها منذ الانهيار العظيم عام 1929.
واتهم ماكين المرشح الجمهوري الذي خسر الانتخابات بأن منافسه أوباما قبل أن يصبح رئيسا بأنه يروج لسياسات ضريبية (اشتراكية) تلقّى حماية تقيه من هذه التهمة عن طريق صفقة الإنقاذ من الرئيس بوش التي بلغت قيمتها 700 مليار دولار.
ويقول جون كاستيلا رئيس المائدة المستديرة للأعمال التي تمثل كبار التنفيذيين في الشركات الأمريكية الكبيرة (جميعنا الآن اشتراكيون إلى حد ما. السؤال الآن هو: إلى أي مدى نحن مستعدون للذهاب في سبيل التنصل من ذلك؟).
#2#
ووجه وزير الخزانة هنري بولسون رسالة شديدة اللهجة إلى أكثر من 20 مديرا لأقوى صناديق التحوط في أمريكا خلال الاجتماع الذي عقد في غرفة المؤتمرات بالقرب من مكتبه وأخبرهم بولسون بأن الوقت قد حان للبدء في تنظيم مجال أعمال صناديق التحوط المهمة, وقال لهم يجب ألا تفكروا في كيفية معارضة ذلك، بل في كيفية إنجاحه، وأصيب المديرون بالدهشة حتى أن بعضهم خرج وهو يتمتم ويقول: ما الذي جرى لهنري بولسون الذي نعرفه؟ وهو معروف بتشكيكه في التدخل الحكومي، وكان أكثر رجال البنوك نجاحا في "وول ستريت"، لكن من موقعه التنظيمي الذي يواجه أسوأ أزمة مالية خلال ما يقارب القرن, وضع مجموعة من التدخلات الحكومية الهائلة في الأسواق، ويؤكد بولسون بعد جلوسه على المكتب أثناء صياغة القواعد التنظيمية الجديدة بقوله (لقد أدركت مدى الخلل والنقصان في التنظيم ولكن أيضا مدى ضرورته), إضافة إلى ذلك أطلقت الولايات المتحدة في 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008 إعلان مبادرة جديدة أخرى لإزالة الجمود عن الائتمان والحد من تراجع الاقتصاد من خلال برامج لشراء ما يصل إلى 800 مليار دولار من الرهون والأصول المدعومة بأوراق مالية.
وبعدما انخفض إنفاق المستهلكين الأمريكيين بأسرع وتيرة منذ 28 عاما اتجهت المبادرة إلى شراء "الاحتياطي الفيدرالي" ما يصل قيمته إلى 600 مليار دولار من أوراق الرهون المالية و200 مليار دولار من الأصول المدعومة بأوراق مالية للمساعدة على إيصال الائتمان إلى المستهلكين.
وانضمت أمريكا لأوروبا في الركود الاقتصادي بحسب التعريف الشائع للركود, وهو انكماش الاقتصاد في ربعين متتاليين.
من أجل إعادة الثقة بالنظام المالي وبالمؤسسات المالية الأمريكية الكبرى هبت السلطات الأمريكية لنجدة المصرف العملاق (سيتي جروب) أحد أكبر البنوك تضررا من الأزمة المالية من خلال تقديم ضمانة تفوق 300 مليار دولار على أصوله مقابل المساهمة في رأسماله.
تعتقد السلطات الأمريكية أن دعم استقرار الأسواق المالية, وهو شرط مسبق لتحقيق نمو اقتصادي متين.
وانخفضت أسهم (سيتي جروب) من 55 دولارا عام 2007 إلى 3.77 دولار خلال تشرين الثاني (نوفمبر)، وهذا الإنقاذ يجنب العملاق المصرفي سيناريو طرحه للبيع جزئيا أو حتى بالكامل، إضافة إلى أن كثيرا من الشركات الأمريكية تواجه انقباضا ائتمانيا لم يسبق له مثيل، وهي تتحول الآن إلى الاستثمار الأجنبي للمحافظة على استمرار عملياتها اليومية.
كثير من هذه الشركات شأن الحكومة الأمريكية تسد الفجوة بالتمويل الإسلامي، ولكن لماذا التمويل الإسلامي الآن؟ فمثلا أكبر شركة لصناعة الطائرات في الولايات المتحدة أعلنت في 31 تشرين الثاني (نوفمبر) أنها تجري مباحثات مع عدد من البنوك الخليجية للحصول على تمويل بحسب الأحكام الشرعية.
تعتقد أمريكا أن الحقيقة البسيطة هي أن الأموال لا بد أن تأتي من مصدر ما, حتى ولو كانت بالتمويل الإسلامي، فالجهة التي تمتلك المال هي الجهة التي ستفرض شروطها.
فالدخول في اتفاقيات بشروط أقسى مع البنوك الإسلامية ليس شرطا أن يكون إيمانا بالصيرفة الإسلامية وإنما فقط من أجل الحصول على المال كمنقذ مهما كانت مصادره.
يدرك المسؤولون أن الأزمة تفوق قدرة الحكومة على احتوائها، ففي بريطانيا منذ وقت مبكر, أثار أسقف كانتبري روان وليامز عاصفة من الجدل حين قال إن تطبيق الشريعة في بريطانيا أمر (لا يمكن تجنبه) تقوم حجته مفادها أن بريطانيا عرضت نفسها بالفعل للتمويل الإسلامي، وأن الجوانب الاجتماعية والدينية للأحكام الشرعية بدأت تأتي مع تلك المبادرة.
ويتساءل خبير اقتصادي أمريكي عن السبب الذي جعل بلدا مثل أمريكا تفكر مجرد تفكير في التعامل مع البنوك الإسلامية بالدرجة الأولى, ماذا أصاب هذه الأمة العظيمة التي كانت ذات مرة المقرض للعالم وكانت كذلك رمز الرخاء والازدهار؟
ونحن نتساءل من جانبنا: هل وضع المسلمين مهيأ لهذه التحولات؟ وهل نحن جاهزون لتقديم النظام الاقتصادي الإسلامي كمنقذ أو قل البحث عنه كمنقذ؟ خصوصا في ظل وضع العرب والمسلمين الذين يعيشون حالة من التفكك والتهميش وكل فئة منهم تحاول أن تلغي الفئة الأخرى رغم أن الدين الإسلامي أرسى دعائم التعددية وطالبهم بضرورة الاعتراف بالرأي الآخر, ويتضح ذلك من موقف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما اختلف الصحابة قبل وفاته في منزل السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ فقال لهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم "قوموا عني لا تختلفوا فتختلف قلوبكم"، لأن الاعتراف بتعددية الآراء تعني قبول الرأي الآخر وليس ضروريا الإيمان به، ولكنه منهج إسلامي لإبعاد الأمة عن التفرق، لكن هناك من يرفض الاعتراف بتعددية الآراء ويحاول جر الأمة نحو الطائفية وحزمها بأحزمة العفة والطهارة والشحن المذهبي وإثارة الكراهية بين الطوائف وهذه المجموعات من المسلمين قضت على منافذ التعددية بفرض صوت واحد باسم الدين الذي هو ميدان انتمائي مشترك واستطاعت تحويل القضايا المذهبية الخلافية والأخطاء الفردية إلى أساسيات جوهرية.
تنبه خادم الحرمين الشريفين لخطورة هذا الشحن فأعلن مبادرة حوار الأديان ورعاها بنفسه لإخراج الأمة من قلة احتكرت الإسلام وأدخلت الأمة الإسلامية بأكملها في مواجهة شاملة غير ضرورية وغير متكافئة مع العالم بعيدة عن أصول الإسلام ومبادئه السمحة.
إضافة إلى هؤلاء هناك أيضا فئة من السياسيين العرب ممن يتهم الحوار بأنه تطبيع مع إسرائيل لأنهم في الاصل يريدون أدوارا تفوق حجمهم الطبيعي أو على حساب المكانة الطبيعية لدول كبرى في المنطقة مثل السعودية نتيجة عمى استراتيجي أصابهم أدخلهم في محاور متصارعة غير متصالحة تقف حجر عثرة أمام التقاء العرب. فكيف للعرب والمسلمين وهم في هذا الحال أن يقدموا نظاما اقتصاديا جديدا يرتكز على النظام المالي الإسلامي، والاشتراك في تقديم تصميم نظام مالي جديد, وهو ليس حلا هروبيا، وإنما هو تفكير مستقبلي لا يعتمد على النمو الاقتصادي المزيف المدفوع بخلق السندات الحكومية وقروض البنوك الذي يعمل على تذويب المال وتعطيل فاعلية الاقتصاد الحقيقي.
فالأزمة الأخيرة هي نهاية نظام فاشل لا بد من هجره, لأن الرأسمالية تشبه الهرم المقلوب على رأسه، ومع عمليات الإنقاذ الحالية فإنها لا تزال مستمرة في أنانيتها مع تزايد عدد المصادرات من البيوت التي عجز أصحابها عن السداد، بينما التمويل الإسلامي يفرض اقتسام الخسائر والأرباح, وفي الوقت نفسه يزاوج بين المقترضين والمقرضين على نحو متوازن، وعامل الرسوم التي يفرضها التمويل الإسلامي تزيل عامل الإغراء الذي يغري البنوك بإيجاد القروض دون تحفظ.
وفي التمويل الإسلامي تنمو الاستثمارات من أرباح الأسهم وليس من نمو رأس المال, ما يضاعف الأرباح الحقيقية وبقدر أقل التقلب على المدى الطويل.
ويركز النظام الاقتصادي الإسلامي على المشاريع المشتركة والأسهم الخاصة لا على الديون الثقيلة التي تقوم على اقتسام المخاطر والأرباح، وفي الاقتصاد الإسلامي يركز في القروض السكنية على الإيجار وليس على الفائدة، ويوازن بين القروض والودائع في البنوك كي يجنب الاقتصاد الفجوة المالية، ويفرض رسوما وليس هامش فوائد لتحصيل قيمة خدماته، رغم اتهام البعض الصيرفة الإسلامية بالتحايل وأنها مجرد تغيير للألفاظ، ولكن الفارق كبير جدا، أي أن الاقتصاد الإسلامي يحرص على تجنيب الاقتصاد علامات التضخم الذي يؤدي عادة في النهاية إلى تدمير الاقتصاد برمته مثلما هو حاصل اليوم، وإن كانت أدوات النظام الاقتصادي الإسلامي في حاجة إلى مزيد من أدوات الابتكار كي ترتقي إلى الواقع المعاصر الذي وصلت إليه ابتكارات الاقتصاد المالي التقليدي، وتقديم رؤى مؤسساتية كي تضبط الخلافات الفقهية حتى لا تصبح أسيرة الآراء الشخصية والعمل الفردي الذي هو أحد عيوب النظام الاقتصادي الإسلامي وهو انعكاسة لواقع المسلمين أنفسهم الذي كان سببا في تأخرهم وعدم نهوضهم للحاق بالعالم المتقدم .. فهل يمكن أن يستغل العرب والمسلمون الفرص السانحة أمامهم؟

[email protected]

الأكثر قراءة