قادة العالم في قمة دينية تحاورية

صحيح أن العالم مشغول بتبعات الأزمة المالية العالمية, وأن الحكومات مطالبة اليوم من قبل شعوبها بأن تكثف جهودها لتخفيف آثار هذه الأزمة في حياتهم المعاشية, إلا أنه تبقت هناك قضايا, وهي قضايا مهمة ورئيسة يشكل وجودها خطرا على حياتنا ومستقبلنا ولها أيضا تأثير حتى في قدرة العالم على التصدي لهذه الأزمة المالية الكبيرة. فجهود خادم الحرمين الشريفين لتعزيز الحوار بين الأديان تأتي في إطار رؤية خادم الحرمين الشريفين لدور الأديان في التقريب بين الشعوب, وتحقيق مثل هذا التقارب والتفاهم الديني كفيل بإنجاح جهود العالم للتغلب على مشكلاته والتصدي لأزماته.
لقد اعتادت الأمم المتحدة أن تنشغل بالهم السياسي في الدرجة الأولى, حتى القضايا الإنسانية في العالم كانت تدخلها وتتعامل معها من الباب السياسي, وكانت تكثف من جهودها لتوظيف العلاقات السياسية للنجاح في القضايا الإنسانية, ولكن بفضل مبادرة خادم الحرمين الشريفين واهتمامه بشأن الحوار بين الأديان، نحن اليوم أمام تجربة عالمية وأممية جديدة, تتمثل في تعزيز الموضوع الديني في الشأن الدولي وقضايا العالم السياسية والاقتصادية والإنسانية. فالتوتر بين الأديان وتزايد سوء الفهم بين الشعوب المختلفة دينيا له دور سلبي كبير على قدرة الشعوب على الاقتراب من بعضها, وهذا بدوره يخلق الأجواء والبيئة المناسبة لظهور النزاعات والاصطفاف بين الدول على أساس ديني, وليس هناك ما يشكل تهديدا كبيرا على الاستقرار العالمي من وجود هذه النزاعات والاصطفافات الدينية والمذهبية.
فلو بدأنا مع الأزمة المالية الحالية وحيرة دول العالم في البحث عن حلول جذرية لها, هذه الحيرة دفعت بكثير من الخبراء الاقتصاديين, حتى السياسيين, إلى الدعوة إلى مراجعة حقيقية وصادقة للفكر الاقتصادي وإعادة تشكيل أسسه الفكرية والثقافية التي يستند إليها ويتحرك في إطارها النشاط الاقتصادي. فالكل مجمع على أن ما حدث للاقتصاد العالمي من أزمة سببه بالدرجة الأولى غياب الأخلاق في تأطير الحركة الاقتصادية. فالمبالغة في الرغبة في تعظيم الأرباح والطمع والجشع التي سيطرت على عقول القائمين على المؤسسات المالية في العالم وراء كل ما حدث من ممارسات اقتصادية متهورة, وكان من الطبيعي أن تنتهي إلى مثل ما انتهت إليه من أزمة يعيش العالم اليوم في بداياتها ولا ندري ما قد تأتي به من مشكلات كبرى في المستقبل. وحتى عندما تخلت حكومات كثير من الدول, وبالأخص الغنية منها, عن التدخل لمراقبة وترشيد الحركة الاقتصادية وتقويم المسار الاقتصادي, وهو في الأساس تراجع عن مبدأ أخلاقي مهم في ممارسة الحكم, وهو أن الحكومات هي في الأساس وجدت لتهتم بالمصلحة العامة ولتحفظ للناس حقوقهم في مقابل ما تسعى إليه الشركات والمؤسسات من السعي إلى تحقيق مصالحها الخاصة. ولكن حدوث هذه الأزمة كشف للعالم أن الحكومات كانت تصطف مع البنوك والشركات واهتمت بمصالحها أكثر من اهتمامها بمصالح شعوبها. وفي هذا الإطار يترقب العالم أن يسهم الحوار بين الأديان في تعزيز الأصوات الداعية إلى عودة الحكومات إلى ممارسة دورها الطبيعي والأخلاقي في ترشيد الحركة الاقتصادية. العالم اليوم مهيأ للقبول, بل يدعو لأن تفرض الحكومات معايير أخلاقية على نشاطات البنوك والمؤسسات الاقتصادية, وهذا الاستعداد يفتح المجال للفكر الديني إلى أن يقدم رؤية أخلاقية يعتمد عليها في الخروج بالمعايير المطلوبة في هذا المجال.
وهناك مشكلة الفقر, وهي مشكلة إنسانية واجتماعية واقتصادية أيضا, فوجود أكثر من مليار إنسان فقير يعيشون بأقل من دولار في اليوم في مقابل شعوب تستهلك أضعاف حاجتها من الطعام والطاقة وغيرها, مظهر من مظاهر عدم العدالة واللاتوازن. فالعدالة ضرورية لتحقيق التنمية المستدامة التي ينشدها العالم في وقتنا الحاضر. لا يمكن للعالم أن ينعم بالاستقرار ولا تكون هناك هجرة غير قانونية تزعج الدول الغنية ولا نجاح في محاربة كثير من الأمراض المعدية ولا قدرة على الإطاحة بالإرهاب العالمي إذا لم تنجح دول العالم مجتمعة من أجل القضاء على الفقر. وللأديان دور كبير في تعزيز الإحساس بهذه المشكلة. فالقيم الروحية وقيم التعاون ومساعدة المحتاجين, التي هي في العموم موجودة في جميع الأديان, خير مخزون ثقافي يدعم الجهود المبذولة لمحاربة الفقر ومساعدة المحتاجين، والحوار بين الأديان يساعد كثيرا على تشكيل مثل هذه الثقافة على المستوى العالمي.
أما عن مشكلة اليوم وهي التي تتعلق بالمناخ والانحباس الحراري وما بدأنا نتلمسه من نتائج خطيرة لها مثل الجفاف والأعاصير الشديدة والفيضانات وغيرها، هي الأخرى مشكلة لها بعد أخلاقي وقيمي. فالإسراف في الاستهلاك والتمادي في استنزاف الموارد الطبيعية وعدم الاكتراث بتلويث البيئة الطبيعية بالمخلفات والانبعاثات الضارة من الأسباب الرئيسة لتدهور بيئتنا الطبيعية وظهور مشكلة الانحباس الحراري. مهما وضع العالم من خطط ومهما أعد من موارد لحل هذه المشكلة وتجاوز آثارها السلبية فإنه لن ينجح في هذه المهمة ما لم يكن هناك تعاون حقيقي وجاد في تحمل هذه المسؤولية وأن تصب الجهود المبذولة على ترشيد سلوكيات الإنسان في إشباع حاجاته الأساسية والثانوية. كل الأديان تهدف بالدرجة الأولى إلى تقويم سلوك الإنسان مع نفسه ومع بيئته الطبيعية, وكلما استطاعت الأديان أن تتعاون مع بعضها وذلك من خلال الحوار والتفاهم والتواصل بينها فإنها بذلك تستطيع أن تقدم خطابا دينيا عالميا وبقيم مشتركة ترفع من قيمة المحافظة على البيئة الطبيعية في حياتنا اليومية. إن العالم يشعر اليوم بحاجة ملحة إلى معالجة أزمة الانحباس الحراري والحوار بين الأديان له دور كبير في بناء الأسس الفكرية والقيمية لكل الجهود السياسية والاقتصادية التي تريد أن تخرج بمعالجات ناجحة.
وإذا أردنا أن نوجز ما هو في حاجة إليه عالمنا في الوقت الحاضر فإننا سنجد أن العودة إلى الأخلاق هي المطلوب وأنها هي المفتاح لحل كل مشكلات العالم, فكلما كان للأخلاق والبعد الأخلاقي حضور في تفكيرنا وممارساتنا وخططنا فإننا سنكون أقوى من الوقوع في مثل هذه المشكلات. فمعظم مشكلات العالم تنبع من أنانية الإنسان وقصر نظره والأخلاق خير من يقمع سلطان الأنانية ويحمي الإنسانية من شرورها. وليس بالغريب على خادم الحرمين الشريفين, وهو من أمة وصف الله نبيها بأنه لعلى خلق عظيم, أن يؤمن بأهمية الأخلاق في معالجة المشكلات العالمية, وهذا الاعتقاد بأن الاستقرار في العالم مرهون بوجود سياسة بأخلاق واقتصاد بأخلاق وثقافة بأخلاق وإعلام بأخلاق وحتى حروب ونزاعات بأخلاق. فرعاية خادم الحرمين الشريفين مسيرة الحوار بين الأديان وحرصه على الوصول بها إلى أعلى المستويات، يعطي شعوب العالم, خصوصا في هذه الفترة العصيبة, بعض الأمل والتفاؤل بأن هناك جدية عالمية في التعامل مع الأسباب الحقيقية للمشكلات التي تعانيها شعوب العالم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي