رمضان والإبداع الاجتماعي

''لا بد من أن تنمو أعداد الفقراء والمحتاجين كي يزدهر العمل الخيري!''..هذا افتراض خاطئ، فهل يعقل أن تكون المصلحة في أن يستمر وجود من يستحق الصدقة حتى يروج عطاء الصدقات والأعمال الاجتماعية والخيرية؟ لا، طبعاً. ذروة العمل الخيري يجب أن توجه أولاً لمنع وجود من يستحق الصدقة، ثم إذا كان لا بد، لإعطاء الصدقة.
وجود الفقراء واقع، نمو أعدادهم نمط. التصدق عليهم واقع، استمراره – والتمتع به - نمط. لا يُخرج من هذا النمط إلا الإبداع. فهو الذي يحرك الإنتاجية ويجعلها تصل إلى مستويات غير مسبوقة. الإبداع ينشر ويصنع القيمة بطرق مغايرة للطرق التي ساهمت في وجود الفقراء أو زادت من أعدادهم.
يحل علينا شهر رمضان وهو موسم العمل الخيري والتكافل الاجتماعي، موسمٌ دائم ومتكرر. ولشهر رمضان امتيازات وخصوصيات عديدة، الكثير منها قابل للاستثمار وله عوائد اجتماعية وإنسانية عظمى. يشع موسم رمضان بالإيمان والتصديق، وهما وقود كل تحركٍ نافع، ولهذا تُثرى فيه الأفعال الطيبة، وهذا بالذات ما يميزه عن أي مناسبة أخرى. تغيير العادات اليومية تلقائياً مع بداية الشهر يصنع محفزات ذاتية يُضمن تكرارها. وبمرافقة ذلك، تسقط على هذا التغيير روحانية الشهر وعباداته، فتُصنع بيئة مشجعة مستقطبة للاستثمار الاجتماعي والخيري. فرص لا مثيل لها. هي ليست مجرد فرص للمردود الأخروي من البذل الفردي المنقطع، بل فرص للمردود الدنيوي والأخروي من جهد جماعي دائم.
هل من المُتوقع والمُرضي أن نكتفي خلال هذه الفرص العظيمة بإفطار صائم؟ أو اختيار الشهر لإخراج زكاة المال مثلاً؟ وأنا أقصد تحديداً الشق التكافلي من العبادات الذي يستهدف الآخر – وليس الذاتي- سواء كان هذا الآخر مستحقاً للصدقة أم غير ذلك ممن يستجيب للعمل الطيب والمفيد.
تكرار هذه الأعمال الطيبة (كإفطار صائم أو الصدقة المادية المباشرة) بلا تطوير أو تنويع أو إبداع، فيه تضييق وهدر وفقدان فرص عظيمة. هي تطبيقات عظيمة، لكنها قد لا تمثل جوهر العمل الخيري في كل زمان ومكان. جوهر هذا الشهر هو النفع والتواصل والتكافل. أما طريقة الأداء والتطبيقات - القابلة للإبداع - تختلف وتتنوع حسب الحاجة والظروف. طبيعة الحياة تتغير، والحاجات اليومية لمختلف فئات المجتمع تتنوع. الخير بابه كبير، ولا يقتصر بلا شك على الصورة النمطية التي نعرفه بها حتى لو كانت تتمتع بخصوصية شرعية محددة. فالخصوصية الشرعية موجودة كذلك عند تحقيق النفع والمقاصد الأكبر والأهم.
تطوير العمل الاجتماعي التكافلي لغرض تحقيق مقاصده الخيّرة، هو في ذاته مقصد شرعي عظيم، وهذا لا يكون بالتعزيز الكمي أو النوعي لفعل واحد كالتبرع، بل هو أوسع من ذلك بكثير. تتحرك البيئة من حولنا بمفاهيم عصرية ترسم ملامح المجتمع إنتاجياً وترفيهيا، وفي بيئة كهذه لا بد من أن يتبع تطوير العمل الاجتماعي التكافلي هذه المجموعة نفسها من المفاهيم.
من الإبداع الاجتماعي أن يتحول التبرع المادي المجرد إلى جهود ومحاولات لاستغلال حماس الشاب في بداية الشهر، وذلك بما يلفت انتباهه ويجعله أقرب لمعادلة العطاء والتكافل. أي العمل على تحفيزه وإشراكه في مبادرات مختلفة عن سياق ما يعرف، جذبه بالجديد وإبراز نتائج أعماله بطريقة مباشرة تشعره بالفخر، وتهيئ له الارتباط الأقوى بالعمل الاجتماعي. وقد يكون هذا عن طريق ورش الإبداع والمسؤولية الاجتماعية أو بتواصله الشخصي المباشر مع سكان الحي، وحصر وتهيئة من يرغب في الاستفادة من خدمات إنتاجية أو مهارية معينة. وقد يكون بالانخراط في مشاريع تتعامل مع الأسر والأحياء الفقيرة لتوجيه النشء مهنياً وريادياً من مرحلة مبكرة أو لزيادة الوعي البيئي والصحي في المنازل، وباب الإبداع مفتوح لا يغلق إلا بالجهل والكسل.
الاعتماد على التحفيز وكسب طاقات الشاب وربطها بالمجتمع من حوله - قبل مطالبته البذل مع أطراف قد لا يعرفها جيداً - ستكون مؤثرة في المدى الطويل، له ولمجتمعه. هي بكل تأكيد أفضل من دعوته من اليوم الأول لتوزيع الماء والتمر ثم التفرج على تشاغله مبتعداً عندما ينطفئ الحماس وتدخل الرتابة.
من عناصر مفهوم الإبداع: الأصالة، والنفع، والقابلية للتطبيق، وهناك من يضيف تقبل العمل من الآخرين ومواءمته للزمان والمكان. وهذه العناصر الأخيرة تتعلق بمعطيات ثقافية واجتماعية قابلة للتجسيد في مناسبة كشهر رمضان. في رمضان مثلاً يكون الاستعداد النفسي للتعاطي مع العمل الاجتماعي أكبر من بقية الشهور، حيث ينتشر في هذا الشهر الجميل ذلك الطيف التكافلي الذي يبرر ويحفز التحرك لأداء الأعمال الطيبة واستيعابها. البيئة الرمضانية أكثر ملاءمة للإبداع، خصوصاً في مجال الأعمال الاجتماعية، حيث تتحقق فيها فرص ظهور وقياس بقية العناصر كأصالة الأفكار ومدى نفعها.
يقول بروفيسور الإبداع والسعادة تشيكسينت ميهاي: ''إضافة إلى العناصر الشخصية، يتطلب الإبداع حقلاً من الخبراء المؤثرين وميداناً للعمل. من دون المؤثرين وبلا ميدان لا توجد عملية إبداعية''. حقل المؤثرين يصبح أكثر ثراءً في ميدان الإبداع الرمضاني، ولا يبقى إلا توجيه الطاقات والقدرات بقصد – وليس بالفوضى أو المصادفة - لدمج هذه العناصر معا وإخراج العملية الإبداعية إلى أرض الواقع. وهذا يعني، برامج إبداعية لتطوير العمل الاجتماعي تركز على السلوكيات والنتائج واستدامتهما، تقوم بها المؤسسات الاجتماعية وتطبقها بالتشارك مع فرق العمل والمتطوعين والمستفيدين. ومن المناسب أن تدعم هذه البرامج – من قبل الجهات المنظمة - بمجموعة من المؤشرات الأخلاقية والإدارية والاقتصادية التي تمكن من قياس ومتابعة النتائج وملاحظة الفارق الذي تصنعه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي