مسؤولية الكلمة وإيقاظ الضمائر بالمسؤولية

احترام ''خصوصية'' الآخرين من المبادئ الإنسانية التي تدعو إليها الأديان كافة وتحميها القوانين والأنظمة، ويبدأ احترام هذه الخصوصيات بالشعور بأهمية ''الكلمة'' والمسؤولية المرتبطة بقولها أو تداولها. نحن نعيش في مرحلة انفتاح صنعته التقنيات الحديثة، خاصة شبكة الإنترنت، فقد أتاحت هذه التقنيات فرصاً للتعبير عن الأفكار والرؤى والرغبات والهوايات بدرجة لم تكن متاحة قبل سنوات عدة فقط. هذه المرحلة الانتقالية من زمن الرقابة الصارمة ومقص الرقيب المتسلط والمنافذ المحدودة للتعبير عن الرأي، إلى مرحلة الإعلام الاجتماعي المنفتح، بحيث أصبح كل مستخدم للإنترنت يتصرف وكأنه صاحب قناة خاصة به أو رئيس تحرير صحيفة ينشر فيها ما يريد، غثاً أو سميناً، مفيداً أو ضاراً، وذلك وفق القيم التي يتحلى بها وبمقدار إحساسه بخطورة الكلمة وأهميتها، فكما يُقال: ''كل إناء بما فيه ينضح''!
لذلك أصبحنا نعيش ''مرحلة تحول'' أو قل: ''فوضى عارمة''، اختلطت فيها القيم والتجارب القديمة بالمستجدات والسلوكيات المواكبة للتقنيات الحديثة، ما يمهد لإيجاد قيم جديدة تستوعب التغيرات وتتناسب مع الوضع الجديد. وخلال هذه المرحلة اتجه الجميع من مفكرين ومثقفين وأنصاف مثقفين إلى مواقع التواصل الاجتماعي في سباق محموم لنشر الآراء والأخبار والصور أو أقوال الحكماء أو أشعار الغزل، وهذا ليس سلبياً، خاصة مع غياب العمل الإعلامي الاحترافي ''الموضوعي''، لكن من حسن الحظ أن الفضاء الإلكتروني لا يخلو من اهتمام بعضهم بالتثقيف السياسي والحقوقي، وكذلك تناول بعض القضايا والمشكلات الاجتماعية بشيء من المناقشة والتحليل.
وعلى الرغم من الابتهاج بهذا الفضاء الرحب والحرية غير المعتادة لطرح الرؤى والأفكار والآراء حول قضايا الساحة، إلا أن هناك سلبيات لم يستطع الزمن تهذيبها، ولم يتمكن التواصل المفتوح والمجاني من تغييرها أو الحد من ممارستها، ومن أبرزها ما يلي:
أولاً: الطائفية المقيتة أضحت في ازدياد، وافتقد الحوار احترام كل طرف لمقدسات الطرف الآخر، وتأجج العنف حتى أصبح العنف و''القتل'' لغة الحوار بين الطرفين، كما حدث للشيخ حسن شحاتة في مصر! من المؤلم أن تصل الأمور إلى هذا الحد بين الطرفين، فشحاتة من جهة لم يحترم رموز السنة، فأضحى يتحدث بلغة ''ساقطة'' يخجل الإنسان السوي من سماعها، وفي المقابل استشاط الطرف الآخر غضبا، فلم يضبط النفس ويتخذ الحوار سبيلاً للرد ودحض الحجة بالحجة! وبالمثل، تحولت ثورة الشعب السوري ضد حاكم ظالم وطاغية استباح (هو وأسرته) كل مقدرات السوريين لعقود عديدة، تحولت من ثورة ''الحرية'' من براثن الدكتاتورية إلى حرب ''طائفية'' أحرقت الأخضر واليابس وفككت مكونات الشعب السوري التي كانت (من قبل) تعيش بسلام ووئام!
ثانياً، لم يُسهم التواصل الإلكتروني في الارتقاء بأسلوب التعامل بين كثير من المستخدمين، ولم يرفع مستوى الشعور بالمسؤولة الاجتماعية تجاه المجتمع، فبعضهم يتحدث مع الآخرين بأسلوب ''ساقط'' بعيد عن الموضوعية واحترام ''الرأي الآخر''، وبعضهم يقوم بتحميل مقاطع ''ساقطة'' بكل معاني الكلمة، تخدش الحياء وتلحق الضرر بالأطفال وتهدم جهود التنشئة الصالحة! ومما يثير استغرابي عدم وجود هذه الظاهرة بالدرجة نفسها في دول غير إسلامية، ليس في غرب الكرة الأرضية فقط، بل في شرقها، وبالتحديد في هونج كونج، التي أقوم بزيارتها في الوقت الحاضر.
مؤسف أن يحدث هذا الخلل في التعامل وغياب الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع عموماً وأطفالنا خصوصاً، مع وجود القنوات الدينية بالعشرات والبرامج التوعوية بالمئات وخطباء الجمعة بالآلاف، ماذا يجري؟ هل هذه القنوات والبرامج والوعاظ أصبح لا تأثير لهم في رفع مستوى الحوار وإيقاظ الضمائر والشعور بالمسؤولية؟!
ثالثاً، يُستخدم هذا الفضاء الإلكتروني الرحب من قبل البعض لبث ''الإشاعات'' والإثارة والتأليب أو المساس بسمعة الآخرين أو ازدراء بعض الفئات والقبائل بألفاظ تحط من قدرهم لأغراض التسلية دون اعتبار لقوله تعالى: ''يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ ولا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ''، أو قوله - عليه الصلاة والسلام: ''ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا البذيء''.
رابعاً: نظراً لتوافر الكاميرات في جميع الجوالات تقريباً أصبح البعض يلتقط صور الآخرين (خلسة) وهم في أضعف المواقف دون أخذ موافقتهم، ثم يقوم بعد ذلك ببثها من خلال موقع يوتوب YouTube أو مواقع التواصل الاجتماعي.
ختاماً أتمنى أن يرتقي مستوى الحوار وأن يرتفع الشعور بالمسؤولية تجاه مجتمعاتنا وأبنائنا، وأن تُبنى الجسور بين الطوائف، ويكون التركيز على الأمور والمسائل المشتركة، فالمساحات المشتركة أكبر بكثير من مساحات الاختلاف الضيقة التي أعطيت أهمية أكبر مما تستحق، فأججت الخلافات، وهبط الحوار، وأريقت الدماء!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي