الخبرة سبب للقفزات الوظيفية

مع الوقت سيملك الجميع الخبرة في مجال ما، فالوقت يمضي وكل فرد منا يجرب ويختبر ويعمل بطريقة أو بأخرى. ولكن هناك من يحصل - بلا نمو يذكر - على العوائد نفسها على الرغم من تراكم خبراته، وهناك من ينجح في تطوير كيانه الإنتاجي، وينتقل من منصة إلى أخرى – ليس بالضرورة بتغيير مكان عمله - بشكل مستمر وإيجابي. وهذا مشاهَد في معظم أماكن العمل؛ إذ يقفز بعضهم مراحل كثيرة في طريقة حضوره وتأثيره وأعماله وإنجازاته، بينما يَثبت آخرون في المكان نفسه، على الرغم من حصول كلا الشخصين على القدر نفسه من التعرضات والممارسات؛ لذا يأتي السؤال: كيف تكون الخبرة سببا للتطور والارتقاء المهني والحياتي؟ وهذا السؤال يقودنا إلى ضبط مفهوم الخبرة أولا، ثم الربط بينها وبين المعرفة ومفاهيم القدرات الأخرى. وقد ذكرت في المقالات الأخيرة شيئا من المقارنة والعرض لسمات كل من التخصص والمعرفة والجدارة والمهارة.
عند النظر إلى مفهوم الخبرة نجد أن هناك من يطلقها على "التفاعل الحسي وتراكم التجارب والممارسات على مدى الزمن"، بينما هناك من يعرفها بـ "التفاعل الحسي وتراكم التجارب والممارسات التي يمكن أن يستفاد منها، بعد أن تترك أثرا على الشخص، وترفع من حصيلته المعرفية والمهارية". وعلى الرغم من وجود عشرات التعريفات والطرق التي تحدد مفهوم الخبرة، إلا أنها تنحصر إجمالا في هذين التعريفين؛ إذ إن الفارق بينهما هو الفارق نفسه الذي يسبب القفزة الوظيفية. هناك من الخبرة ما يصنع تأثيرا جديدا في قدرات الشخص ويستفيد منها بعد ذلك، ومنها ما لا يقوم بذلك. معرفة ملامح هذه الخبرة التي تصنع التأثير هي المفتاح للتطوير والارتقاء المهني.
تشكل الخبرة عنصرا أساسيا في تحويل وتطوير الاهتمام والتخصص إلى شيء مختلف تماما عن طريق الممارسة؛ لذا تستفيد من التفاعل الحسي والتجربة والتطبيق، وتبني بذلك الجَدارات، وتشذب المهارات، وتكمل العناصر المهنية التي تعكس الفاعلية الإنتاجية. إذا نظرنا إلى التجربة والممارسة كمتمم لعملية بناء الجدارة وُلدت الخبرة الحقيقية، وإذا جردنا الخبرة من دورها في صناعة المعرفة الجديدة أو من تفاعلها بشكل جيد مع الجَدارات والمهارات، تعود إلى مكونها الأساسي المجرد من القيمة، وتنتهي إلى ممارسات وسلوكات لا تعكس الخبرة بمعناها الثري المؤثر.
يشتكي كثيرون من أمور خارجية – حسب وجهة نظرهم - تجعلهم يفقدون القدرة على التحكم في خبراتهم، ولا يتمكنون من تنميتها. قد يقول أحدهم إن المشكلة تكمن في صعوبة التركيز أو التشويش الذي يحدث بسبب الضغوط الاجتماعية أو الفوضى التخطيطية، وقد نسمي كل ذلك "الظروف". ما نفتقده في هذا الجانب هو الاندماج في القيام بما نريد برغبة حرة وبأسلوب متعمد مخطط له. وهذا يعني أن تكون نافذة الممارسة، التي نحصل بها على الخبرة، تحدث في ظروف قابلة للتحكم، ونسعى فعليا إلى التحكم فيها.
فنبذل الوقت، ونخصص المكان بشكل واضح وجدّي؛ لنحصل على الاندماج مع بيئة الخبرة، فأي محاولة للحصول على الخبرة تحت التشويش أو من دون اندماج وتفاعل تعني ضياع التركيز، وبالتالي ضياع التعلم. والمحور الثاني المهم هو أن يكون تسيير هذه العملية بناء على رغبة ذاتية كاملة الإرادة والتصرف؛ أي أن نقوم بالتخطيط لها بشكل طوعي، فالخبرة الإيجابية تبنى برغبة واهتمام، وليس بالتزامات تعاقدية أو مؤشرات أداء سنوية. والمحور الثالث أن يسيطر التعمد على الحدث، والتعمد هنا أو السبب المخطط له لا يعني فقط وجود نية للحصول على الخبرة المفيدة، إنما وجود نية مسبقة يحدث عن طريقها "تصميم" للقيام بالفعل بالشكل الذي يمكن القيام به. هناك سببية ومنطقية ثمينة، تقلب الممارسة والتجربة إلى تفاعل حياتي متكامل العناصر، يصنع التعلم، ويولد القيمة، ويتحول إلى خبرة حقيقية، يمكن لها أن تصنع التطوير والارتقاء، أما العشوائية فهي رهان مقامر قد يصيب وقد يخيب.
إذا افترضنا أن طالب الخبرة "الإيجابية" بدأ بالتخطيط ومارس بفاعلية وتعلم باستمرار، يبقى عليه أن يشذب هذه العملية المهمة بتحسين طريقة استخدامه للنمط والبنية Patterns and structures. يؤكد كثير من العلماء والخبراء، أن الإنسان بطبيعته يقوم بملاحظة الأنماط وتمييز البنى وتعزيزها؛ لحل مشكلاته وللتذكر والتعلم، وهو يستعين بها للقيام بكثير من الأنشطة الذهنية المهمة. وهذه سمة مهمة للخبراء والمؤثرين، الذين يضيفون القيمة في محيطهم، ويستخدمون مثل هذه الأدوات لتحسين نتائج أعمالهم. قوة الملاحظة والاستنباط أثناء العمل لأمور يغفل عنها الجميع، تصبح مع الوقت مهارة مرتبطة بصاحب الخبرات المميزة، وتلخيص الوقائع في هياكل وعلاقات يمكن قراءتها بطرق مختلفة، تفصح دائما عن أدوار وتأثيرات لا ترى بشكل لحظي وعفوي. في النهاية، بقي أن أقول، إن هذا الملخص السريع يمكن إعادة سرده بشكل مخصص لكل وظيفة على حدة، وكلما اختلفت طبيعة العمل، تنوع أسلوب بناء الخبرة المميزة التي تصنع الفارق؛ لذا أرى أن المسؤولية – مهنيا واجتماعيا – تقع على عاتق المتخصصين الخبراء، وعليهم أن يفصحوا عن مفاتيح بناء الخبرة في مجالاتهم، ويفتحوا الأبواب بخبراتهم السابقة لتكتمل بهم مسيرة البناء والعطاء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي