Author

اليوم الوطني .. الطريق نحو عصر النهضة

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى

الأيام الوطنية هي التعبير الصريح عن الروح التي تسري في الشعوب، ففي تلك الاحتفاليات تظهر الرموز الوطنية التي يمثلها التنين في الصين، والمنجل في روسيا، وتمثال الحرية في نيويورك، وقصر باكنجهام في بريطانيا، وقد ترى بعض الشعوب أن اليوم الوطني يوم الذاكرة الوطنية لاستعادة الأمجاد، لكن هذه الفكرة غير جيدة عن اليوم الوطني، ذلك أنها تضع الوطن ومنجزاته رموزا ماضية لا يسعها أن تقود اليوم نحو الحضارة بكل ما فيه من تحديات، فضلا عن أن ترسم المستقبل بكل جرأته، فالأمم والشعوب الغربية التي تمضي أيامها الوطنية تحت ظل الرموز التي شكلت ماضيها "فقط"، هي أمم لا تواكب التقدم، على حسب توصيف فليسوف التاريخ أوسفالد شبنجلر (1936ـ 1880 Oswald Spengler) وهو مؤرخ ألماني برز في مجال تاريخ الثقافة والتأثير الثقافي والاجتماعي للشعوب والحضارات واستندت أعماله إلى منهجية تحليلية تسعى لفهم التفاعلات والعلاقات بين مختلف العناصر الثقافية.
يأتي كتابه الشهير "تراجع الغرب" The Decline of the West كأهم عمل فلسفي مكون من مجلدين نشر المجلد الأول في 1918، وتبعه المجلد الثاني في 1922، ويقدم هذا العمل نظرية في التاريخ والحضارة، وهو أحد أكثر الأعمال تأثيرا في فلسفة القرن الـ20 والنقد الثقافي، لقد كان للحربين الأولى والثانية أثر واسع في فهم مكنونات هذا السفر العظيم، حيث اتهم بأنه تشاؤمي حين يتنبأ شبنجلر بأن الحضارة الغربية تتجه نحو مستقبل من الانحدار والانحلال، ولذلك تورط نقاده في ذلك الفخ، فخ نشر الكتاب في تلك المرحلة، لكن إذا قرأت الكتاب من خلال منظور مختلف ستجده ملهما إلى حد كبير، ويمكن تلخيص الفكرة المحورية للكتاب ـ رغم الكم الهائل من الأفكار المطروحة فيه ـ في أن الحضارات تمر بدورات حياة متميزة، تشبه إلى حد كبير دورات حياة الأفراد، وأن لكل ثقافة وحضارة خصائصها المميزة وتتطور وفقا لمنطقها الداخلي.
لا يخفي شبنجلر في كتابه إعجابه بالحضارة العربية، فيقول: "إن الأعوام القلائل ضغطت جميع العواطف العربية المدخرة والآمال المؤجلة والأعمال المحفوظة، بما يكفي لتملأ قرونا وقرونا من التاريخ". هكذا هي الحضارة عنده، فالحضارات نتاج روح عظيمة تم نفثها في الشعوب التي استقبلت تلك الروح وتهيأت لها، روح أوقدت في الشعوب العزيمة التي ظهرت في قوة الرجال التي لا يقهرها شيء، وإذا كان ابن خلدون يقول إن العرب أسرع الناس قبولا للحق والهدى، لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتها من ذميم الأخلاق، وإن من علامات الملك عند العرب التنافس في الخلال الحميدة، فإن الروح التي تسري في العرب نحو الحضارة هي روح أصيلة، تظهر وتختفي عبر الزمان، رغم أن شبنجلر يؤكد أن التاريخ عنده لا يتكرر أبدا، وأن كل واقعة تاريخية هي واقعة فريدة في نوعها، وفريدة في حدوثها، والتاريخ يتألف من الوقائع، والوقائع تتوالى وتتابع، لكن هذا لا ينفي عنده أن هناك نمطا في الصيرورة التاريخية، نمطا لا ينفك يتكرر، هنا أقول: إن اليوم الوطني هو ذاكرة مجيدة للرموز التاريخية التي صنعت الحضارة السعودية، لكنه في الوقت نفسه منارة للروح الجديدة التي سرت في هذه البلاد لتصنع حضارتها من جديد، وتعيد للحضارة العربية مجدها التليد. وإذا كان كتاب شبنجلر تشاؤميا عن الغرب وممجدا الحضارة الغربية، فإنه مصدر تفاؤل عندنا، وهو يفسر لنا الوقائع التاريخية اليوم، التي عبر عنها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أكثر من مرة بأوروبا الجديدة، وعندما نقول أوروبا نتذكر روح عصر النهضة.
عندما يرى شبنجلر أن اجتماع المحاربين من قبيلة أو جنس أو خليط من الشعب بقصد الدفاع ضد قوة خارجية معادية هو البذرة الأولى للدولة، وأن الأصل في الدولة هو الحرب، فإن الحرب عند شبنجلر هي التعبير الحقيقي عن الإرادة الإنسانية التي تريد الصمود أمام الرعب، وفق هذا التصور فإن ظهور الملك عبدالعزيز على الساحة الدولية لم يكن مصادفة أو من صنع قوى خارجية عن هذه البلاد وشعبها، بل في صلب الأحداث المرعبة التي نشأت مع انهيار الدولة العثمانية وتغلغل الاستعمار في العالم العربي، لقد كانت تلك الأحداث الخطيرة كافية لتجعل الشعب السعودي بكل أطيافه مع قائده الفذ يندمج في معركة الحياة وبزوغ فجر الدولة السعودية، وعند شبنجلر فالدولة هي صورة للشعب، لكنه يرى أن الأحداث هي التي تصنع الشعب، وليس الشعب هو الذي يصنع الأحداث، والشعب ليس جنسا أو دما أو عرقا أو لغة، بل هو وحدة للروح، والفعل وحده هو الذي يغير من روح الفاعل، فكون الشعب شعبا بمعناه الحقيقي، يلزم وحدة الشعور، أو الحس الجماعي القومي "كما أسماه فيخته" وهي الجوهر والأساس، ويرى شبنجلر أن حيوية الشعب تقاس دائما بمدى عمق هذا الشعور بالوحدة وحيويته، ولقد تحقق هذا بجلاء مع توحيد المملكة على يد مؤسسها الملك عبدالعزيز. فالشعوب ليست وحدات سياسية أو لغوية، بل وحدات روحية، لكن ذلك كله لا يلزم نشأة الحضارة، ذلك أن الشعوب تنقسم إلى شعوب سابقة للحضارة وهي الشعوب الأولية، وشعوب موجوده في الحضارة، وشعوب متأخرة عنها، فالشعوب الأولية هي الجماعات الفرارة غير المتجانسة، التي تتكون وتنحل بلا قاعدة معروفة وتنتهي بأن تشعر شعورا سابقا وغامضا بحضارة لم تولد، وهي جامعة أخلاط من الناس في هيئات جماعية، بينما لم يتغير طابعها الإنساني إلا قليلا، ولفهم هذا التصور علينا أن نستلهم من التاريخ الشعوب التي استوطنت جزيرة الأندلس قبل وصول الأمير الأموي عبدالرحمن الداخل، حيث كانت شعوبا أولية، لكن بزوغ روح الحضارة مع ظهور الأمير الأموي قد نقل تلك الشعوب إلى مرحلة الحضارة، فالشعوب هي نتاج الحضارات وليست الحضارات نتاج الشعوب، وفي هذا السياق يقول شبنجلر "يجب أن نؤكد بكل ما أوتينا من قوة أن الحضارات العليا هي شيء أصيل كل الأصالة، شيء انبثق من أعماق الروح، بينما الشعوب رموز للحضارات".
هكذا يأتي اليوم الوطني السعودي الـ93 بروح سعودية جديدة وأصيلة مع هذا العهد الميمون لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان الذي يقودنا إلى روح أوروبا الجديدة، هنا سأعيد ما يراه شبنجلر في العرب وإعجابه بالحضارة العربية، لكني سأعدل النص قليلا لنفهمه في سياق اليوم الوطني السعودي، فالأعوام السابقة ضغطت جميع العواطف المدخرة والآمال المؤجلة والأعمال المحفوظة، بما يكفي لتملأ قرونا وقرونا من التاريخ، لكن يلزم من ذلك العمل معا من أجل أن تكون تلك الروح قوية بشكل يصنع الحضارة المنشودة، وكما يرى شبنجلر أن الحضارة تولد في اللحظة التي تستيقظ فيها روح كبيرة، هذه الروح الكبيرة تستفز كل ملكات الشعب وتصبح موقدا هائلا للإبداع، وكلما كان ذلك الموقد ضخما والروح عظيمة فعلا، كانت الحضارة مستدامة وممتدة عبر القرون، وكلما خبت تلك الروح، تخشب الإبداع.

إنشرها