وخير جليس في الزمان «المجلة»

كان الكتاب هو الجليس حتى وقت قصير في بحث الإنسان ومسعاه للاستزادة أو الاطلاع أو النهل من العلوم والمعارف بشتى أصنافها. ولكن قد لا نبعد عن الحقيقة إن قلنا إن الكتاب لم يعد الجليس الذي لا بد منه بقدر تعلق الأمر بالعلم والمعرفة.
منذ أن شاعت الكتابة والقراءة وتيسر أمر الحصول على النصوص المكتوبة، كان الكتاب الوسيلة الوحيدة لنقل العلوم وخزنها. واستمر هذا الجليس في تبوء المقعد وحده لأكثر من 2500 عام، عندما صار في إمكان الإنسان استخدام الورق والقلم لنشر المعرفة.
لم يلق الكتاب منافسا إلا في العصر الحديث وذلك في القرن الـ18، أي بعد نحو ثلاثة قرون ونيف على اكتشاف الطباعة. في هذا القرن بدأت المجلات والدوريات تأخذ الشكل القريب من الذي تعود عليه الباحثون من أمثالي البالغين اليوم من العمر عتيا، وذلك في بداية حياتهم المهنية ـ السبعينيات من القرن الماضي.
أتذكر كيف كنت أمضي الساعات في المكتبة المركزية الجامعية أقلب فيها صفحات المجلات العلمية في اختصاصي. كانت المجلات العلمية في وقتها تعد من المصادر النادرة وكانت المكتبات تحرم استعارتها لكي تبقى على الرفوف في متناول الجميع.
وأتذكر أيضا كيف أن الأستاذ المشرف أنبني في حينه ـ منتصف السبعينيات من القرن الماضي ـ لأن المجلات العلمية كانت تشكل أغلبية المصادر في أطروحتي، ونصحني أن أقرأ الكتب في اختصاصي.
وفي الأسبوع الماضي، أنهيت مراجعة فصل لطالب دكتوراه أنا المشرف الأول على أطروحته. لم يكن هناك كتاب واحد في قائمة المراجع المرفقة بالبحث. استند الطالب في كتابة الفصل على المجلات والدوريات العملية فحسب.
هل أنبته؟ هل اشتكيت له من ذلك؟ كلا. في غضون خمسة عقود صارت المجلة العلمية هي خير جليس في الزمان الذي نحن فيه، وخسر الكتاب مقعده الوثير.
تعد المجلات العلمية منبع العلم والمعرفة في عالم اليوم. هناك إحصاءات كثيرة تخص دور المجلات العلمية في حياة المجتمعات العصرية، حيث يربط البعض مدى رقي الأمم بعدد الأبحاث التي ينشرها علماؤها أو عدد المجلات العلمية التي تمتلكها.
وكما أننا نقيس دخل الفرد الواحد من قيمة الإنتاج القومي الإجمالي، أو مثلا نقيس عدد الأسرة في المستشفيات لكل ألف أو مليون شخص، كذلك نقيس اليوم عدد الأبحاث المنشورة لكل ألف أو مليون شخص.
لن أقدم أي إحصاءات محددة في هذا الرسالة ولن أجري مقاربات مع الحالة في الدول العربية. سأترك ذلك للمقبل من الأسابيع.
كيف حلت المجلات والدوريات العلمية محل "خير جليس في الزمان"؟ الجواب قد يكون معقدا وعسيرا، لأن هناك عوامل كثيرة مرتبطة ومتشابكة، ولكن لا نستطيع إغفال عاملين: الأول، يتعلق بطريقة إجراء البحث العلمي ذاته، والآخر، يعزى إلى الثورة الرقمية التي جعلت الطباعة والنشر متاحين على نطاق واسع، ويسرت عملية الحصول على المصادر والاقتباس.
اليوم لا أحتاج أن أذهب إلى المكتبة المركزية في الجامعة لقراءة الطبعات الأخيرة للمجلات العلمية في اختصاصي. ليست الطبعات الحديثة بل كل محتوى المجلات هذه في متناولي وأنا جالس في مكتبي في البيت. ليس هذا فقط، بل في إمكاني، من خلال ماكينة البحث، الوصول إلى مبتغاي في ثوان.
ومع الثورة الصناعية الرابعة حيث صار الذكاء الاصطناعي سيد الموقف، لم أعد وحيدا في صياغة البحث. الماكينة الذكية ترقص أمامي وتقدم لي خدمة لو تطرق نديم لي عنها في منتصف السبعينيات من القرن الماضي لتصورت أنه يهذي.
الحاسوب الذكي يصحح لي ويترجم ويقدم خيارات كان من العسر في مكان الحصول عليها سابقا، وأخيرا في إمكانه من ناحية حتى إزاحتي لأن له مقدرة الكتابة عوضا عني.
ودخلت المطابع الغربية معترك الذكاء الاصطناعي والرقمي من أوسع الأبواب واليوم أغلب المجلات العلمية الغربية ـ وهي السائدة ـ جرت رقمنتها مع كل محتواها حتى إن مضى على تأسيسها عقود أو قرون.
وتعيش المطابع الغربية في أكثر الفترات ازدهارا من حيث الأرباح، حيث بلغ ريع دار النشر الهولندية الشهيرة "إلزيفير" من بيع المجلات العلمية أكثر من ثلاثة مليارات دولار في العام الماضي. أغلب ريع "إلزيفير" يأتي من اكتسابها حقوق نشر مجلات علمية يصل مجملها إلى نحو ألفي مطبوع.
عالم جديد للنشر الأكاديمي بدأ يتشكل وقصب السبق فيه لا يزال في يد الدول الصناعية الغربية، إلا أن دولا مثل الصين والهند وروسيا دخلت معترك المنافسة وبقوة.
قد يسأل القارئ، أين موقع الدول العربية في ثورة النشر العلمي هذه؟ سأحاول الإجابة عن هذا السؤال المهم في المستقبل القريب، ولكنني أخشى أن الجواب قد يكون صاعقا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي