الحرب التجارية الكورية - اليابانية

تسببت الأحداث التاريخية بين اليابان وشبه القارة الكورية في توليد حساسيات قوية بين شعبي ودول الجانبين. كانت اليابان إبان حقبتها الاستعمارية - قبل الحرب العالمية الثانية - تمارس أعمالا عنيفة ضد شعوب مستعمراتها، بمن في ذلك الكوريون. وتضمنت تلك الممارسات استقدام العمال الكوريين بالقوة وإجبارهم على العمل في اليابان قسرا وعدم إعطائهم حقوقهم. وقد تحسنت العلاقات كثيرا بين البلدين بعد إنشاء العلاقات الدبلوماسية قبل أكثر من 50 عاما. وقاد تحسن العلاقات إلى تدفق الاستثمارات اليابانية إلى كوريا الجنوبية، التي ساعدتها كثيرا على مسيرة تنميتها وأسهمت في نقل التقنية إليها. وحققت كوريا الجنوبية خلال بضعة عقود تطورا غير مشهود في كثير من الدول، وباتت تنافس الدول المتقدمة تقنيا، كاليابان والولايات المتحدة.
أدى تطور الصناعات الكورية، خصوصا الإلكترونية، إلى توليد تحديات لكثير من شركات الدول المتقدمة المنافسة، بما في ذلك اليابانية والأمريكية. وتلجأ الدول في كثير من الحالات إلى استخدام مبررات تاريخية أو أمنية أو سياسية في تحقيق مصالحها أو مصالح بعض المتنفذين فيها. وبغض النظر عن المبررات الأمنية والحساسيات التاريخية، من المعتقد أن قوة منافسة الشركات الكورية، خصوصا العاملة في المجالات التقنية المتقدمة، قادت إلى منع اليابان تصدير بعض المدخلات الضرورية للصناعات التقنية - صناعات أشباه الموصلات والشاشات - وأهمها فلوريد الهيدروجين. وستقود قيود اليابان التصديرية إلى التأثير سلبا في الشركات الكبرى في كوريا الجنوبية، أهمها شركة سامسونج العملاقة وصناعة الرقائق الإلكترونية بوجه عام. لن يقتصر الأمر على هذا، بل ستتضرر الشركات العالمية الأخرى التي تستخدم المكونات الكورية في صناعاتها، ومن أبرزها شركتا أبل وهواوي. وأجرى البلدان مفاوضات دبلوماسية وتجارية لحل هذا الإشكال، لكنها لم تخرج بنتائج إيجابية. صحيح أن سياسات البلدين تتصف بالرزانة والهدوء وتجنب المواجهات، لكن المصالح تؤثر بقوة في قراراتهما حال كل دول العالم.
أدت الخطوة اليابانية إلى ردة فعل قوية لدى الشارع الكوري الجنوبي، الذي نادى جزء كبير منه إلى مقاطعة المنتجات اليابانية، ما يهدد العلاقات بين البلدين بمزيد من التوتر. طبعا، لجأت كوريا الجنوبية إلى الاتفاقات الدولية، خصوصا اتفاقيات التجارة متعددة الأطراف، ورفعت شكوى إلى منظمة التجارة العالمية لممارسة ضغوط على اليابان وحثها على إلغاء قيود التصدير على المواد الحساسة. وقبلت المنظمة القضية، لكن الحكم فيها سيستغرق فترة من الزمن. من جهة أخرى، من المتوقع أن يستمر البلدان في التفاوض حتى الوصول إلى اتفاقية بشأن هذه القيود، حيث لن يقود تفاقم الأزمة إلا إلى الإضرار بالمصالح الاقتصادية للبلدين.
أدت هذه الخطوة إلى إقحام أطراف ثالثة في النزاع بطريق غير مباشر، ما قد يستدعي تدخل حكومات دول اقتصادية كبرى، إذا تسبب الحظر الياباني في إحداث أضرار ملحوظة على صناعاتها ذات العلاقة. وتملك الشركات عادة مخزونات كافية لمدة زمنية مناسبة للصناعة، لكن استمرار الحظر لفترة زمنية طويلة سيلحق الضرر بعدد من الشركات العالمية الضخمة. وتظهر هذه الأزمة مدى ترابط الاقتصادات العالمية الناتج من الانفتاح التجاري والاستثماري العالمي، الذي نشر سلاسل مراحل إنتاج السلع والخدمات بين دول العالم حتى بات كثير من الصناعات والشركات يتصف بالعالمية. كما تعطي هذه الأزمة للصناعات المختلفة دروسا في ضرورة التعرف على مخاطر إمدادات المدخلات والنزاعات التجارية لخفض مخاطر انكشافها عليها. إن الاعتماد على مصدر واحد أو مصادر محدودة للمدخلات، يمثل مخاطر كبرى على أنشطة واقتصادات وصناعات الدول، ما يستدعي ضرورة دراسة البدائل عند الأزمات وتأمين مخزونات كافية لمواجهة أي شح في الإمدادات.
أدى انتشار التقنية وتوسع وانتشار سلاسل الإنتاج إلى اشتداد المنافسة بين دول العالم، التي قادت وستقود إلى نشوء خلافات تجارية وإجراءات بعضها مفاجئ وغير مدروس ويتسبب في نزاعات وحروب تجارية تلحق أضرارا بالاقتصاد العالمي. وقاد قبول العالم للاتفاقات متعددة الأطراف سابقا إلى تهدئة حدة النزاعات التجارية، لكن ميل بعض الدول أخيرا، خصوصا الاقتصادات الكبرى، قاد إلى تهميش الالتزامات متعددة الأطراف، ما تسبب في زيادة حدة توتر العلاقات الدولية التجارية. ولمواجهة هذه الإشكالية، لا بد من العودة إلى مظلة الاتفاقيات متعددة الأطراف أو إصلاحها أو إنشاء مظلة تجارية عالمية بديلة أكثر كفاءة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي