الأمن الوظيفي والمجتمعات المفتوحة

هناك طريقة أخرى لمعالجة عدم المساواة، وهي وضع حد أدنى للدخول، ما يمكن أن يساعد في ضمان مستوى معيشي معقول حتى لأصحاب الأجور المحدودة وأنا لست من مؤيدي فكرة الدخل الأساسي المعمم إلا في حالة البلدان الفقيرة التي لا تملك القدرة على إدارة دولة رعاية أو إذا كان الدخل الأساسي المعمم بديلا لسياسة أسوأ منه مثل دعم الطاقة. ففي معظم الاقتصادات متوسطة الدخل والاقتصادات المتقدمة، سيكون تطبيق الدخل الأساسي المعمم باهظ التكلفة ودون المستوى الذي تحققه دولة الرعاية الكفؤة، كذلك يمكن أن يتسبب تطبيق هذا الدخل في هدم الاعتقاد السائد بأن كل من يستطيع العمل ينبغي أن يعمل، علما بأنه لا يراعي بالقدر الكافي أهمية العمل البناء لتحقيق السعادة والواقع أن هناك حلولا أفضل من ذلك، منها دعم الأجور، والخصومات الضريبية على الدخل المكتسب، ورفع الحد الأدنى للأجور، مع إتاحة الاستفادة من الخدمات مثل التعليم والرعاية الصحية.
وهناك مصدران لانعدام الأمن الوظيفي يتعين التصدي لهما، وهما انتشار الوظائف منخفضة الجودة ضئيلة المزايا وتأثير الأتمتة ولكي ينجح التحول إلى الاقتصادات الرقمية، يجب على الحكومات تسهيل التنقل بين الوظائف وضمان حصول العاملين على نصيب عادل من ثمار هذا التحول ومن الحلول الممكنة في هذا الصدد ضمان مناخ من العدالة والمساواة في التفاوض على الأجور، واقتسام الأرباح، ومعاملة التعاونيات، وإلا فسيظل المهمشون يصوتون لمصلحة سياسات كالتي تفرض قيودا على التجارة أو حركية العمالة، ما يعطل مسيرة تحديث الاقتصاد.
وينبغي أن تتوخى الشركات المرونة في تشغيل العمالة والاستغناء عنها تبعا للتغيرات الاقتصادية، على أن تقدم لهم إعانات بطالة سخية وفرصا ملائمة للتدريب والتوظيف ومن أمثلة هذا النظام ما يسمى في الدنمارك "الأمن الوظيفي المرن Flexicurity" وهو نظام يعتمد على استعداد الشركات لدفع ضرائب أعلى والتعاون مع الشركاء الاجتماعيين لتلبية احتياجاتها المهارية مقابل زيادة المرونة في قواعد التوظيف ولسوء الحظ، تشهد معظم البلدان تدهورا في الإنفاق على تعليم العمالة وتدريبهم، كما قل حافز الإنفاق لدى الشركات نظرا لارتفاع معدل دوران العمالة ويجب زيادة الاستثمار في التدريب والدعم الانتقالي لتيسير التحول إلى أسواق عمل تلائم المستقبل.
وجدير بالذكر أنه كلما زادت البلدان ثراء، انخفضت ساعات العمل، وهو اتجاه عام ستؤدي الأتمتة إلى تعجيل وتيرته وسيكون من المهم الاستفادة من زيادة الإنتاجية المتحققة من الأتمتة في إلغاء المهام الروتينية والمتكررة وتخصيص وقت لإنجاز عمل مفيد أو الاستمتاع بالراحة ومن الإصلاحات الإيجابية التي أجرتها بلدان مثل الدانمارك وألمانيا وهولندا أنها عززت الحقوق المتعلقة بمعاشات التقاعد والإجازات المدفوعة وتدريب العاملين بدوام جزئي وفي وظائف مؤقتة "وهم غالبا من ذوي المهارات الأقل والأجور الأدنى".
ومع تقدم التكنولوجيا وارتفاع أعمار السكان، ستصبح مدة الحياة العملية أطول وسيحتاج الناس إلى تطوير أدواتهم عدة مرات خلال حياتهم الوظيفية وستكون البداية موفقة في التكيف مع هذه الظروف إذا تم إلغاء سن التقاعد الإجباري وإزالة اشتراطات السن التي تحدد أهلية الحصول على قروض الطلاب، مثلما فعلت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بل إن ربط استحقاق المعاشات التقاعدية بمتوسط العمر المتوقع، مثلما هو الحال في هولندا، هو طريقة أفضل لضبط توقعات العمالة.
وعلى المستوى العالمي، يتعين التوصل إلى طريقة لمواجهة التحول الحاد في مصدر الدخل من العمل إلى رأس المال وكخطوة أولى، ينبغي إلغاء السياسات التي تفرض ضرائب أكبر على العمل، وإن كانت قضايا المنافسة الضريبية على الصعيد الدولي تجعل تحقيق ذلك أمرا صعبا. وسيتسنى إنجاز شوط طويل نحو استعادة الشعور بالعدالة في الاقتصاد العالمي إذا بذل جهد دولي لضمان إخضاع رأس المال للضريبة في مكان حدوث النشاط الاقتصادي، بدلا من الملاذات الضريبية الخارجية وغيرها من الكيانات ذات الكفاءة الضريبية.
وخلاصة القول إننا نحتاج إلى عقد اجتماعي جديد لإيجاد الشعور بالأمن في اقتصادنا الذي تسوده العولمة والتغيرات السريعة ويتعلق هذا العقد الاجتماعي بطريقة تجميع مواردنا لتوفير السلع العامة التي نتفق على ضرورتها وطريقة دعم المتضررين من الصدمات المعاكسة وبينما تختلف الاختيارات باختلاف المجتمعات، فإننا جميعا قد وصلنا إلى مفترق طرق، ويتعين علينا إعادة التفاوض حول اختياراتنا السابقة لأنها لم تعد صالحة للظروف الحالية، كما أنها لا تصلح أبدا لظروف المستقبل، إن التوصل إلى عقد اجتماعي جديد أمر ضروري لاستعادة الشعور بالأمن والحفاظ على التأييد السياسي للاقتصادات والمجتمعات المفتوحة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي