نزيف الليرة .. وعاصفة الاقتصاد التركي

لا شيء يقلق أي اقتصاد من انهيار قيمة العملة، وقد واجهت دول عدة هذه الكارثة، وبالكاد تستطيع الدول التعافي منها، لكن هناك فرق دقيق جدا بين انهيار قيمة العملة وانهيار سعر صرف العملة، وقليلون يدركون الفرق بينهما، ذلك أنه من الصعب معرفة أي الحالتين أصيب بها الاقتصاد، كما أن انهيار سعر الصرف هو مقدمة لانهيار قيمة العملة، وفي بعض الأحيان يمكن للدول تلافي انهيار قيمة العملة إذا استطاعت حل مشكلة سعر الصرف، وبعض الحكومات تحاول إقناع العالم وشعوبها أن المشكلة تنحصر في سعر الصرف فقط، لكنها في هذا المسار تتجاهل حل المشكلات الأساسية في الاقتصاد، التي تؤدي إلى مزيد من التدهور والانهيار. فالأعراض الخطيرة للمشكلة الاقتصادية الكامنة تظهر على شكل استنزاف خطير للاحتياطيات من العملات الأجنبية والذهب، كما تظهر في خلل مماثل في الميزان التجاري وجودة ميزان المدفوعات، وهو ما يعني في العمق عدم قدرة الاقتصاد على توليد عوائد رأسمالية ونمو حقيقي. ومهما كانت مظاهر التنمية حاضرة والحراك التجاري قائما، فهذا الخلل ينعكس على خروج رأس المال بكثافة من الاقتصاد، وهو ما يثقل كاهل سعر الصرف، ولتجنب مظاهر تراجع سعر الصرف وبدلا من حل المشكلة العميقة، تبدأ الحكومات رحلة طويلة من الدفاع عن العملة في أسواق الصرف من حيث تعديل أسعار الفائدة وشراء العملة والدفع بالاحتياطيات الأجنبية، وهو ما يعمق المشكلة، ويجعل الاقتصاد تحت ضغوط رهيبة وقلق مفزع، ذلك أن هذه المرحلة لا تدوم حتى تفشل الحكومات في هذا الحل، وينكشف عمق القضية، لتبدأ موجة أكبر وأخطر من هروب رأس المال والمضاربة على العملات، وهكذا يصبح الاقتصاد برمته في مهب الريح. وإذا لم تقف الحكومة وتقرر الاعتراف بحجم المشكلة، فإن هروبها إلى الخارج لن يتسبب إلا في تفاقم الأزمة أكثر. هذا ملخص لما يمكن أن تواجهه العملة التركية "الليرة"، حيث يراقب الأتراك منذ عدة سنوات تراجع قيمة عملتهم، ورغم ما قامت به الحكومة من الدفاع عنها في الأسواق العالمية، لكن النزيف تفاقم هذه السنة، فبعد أن أصبح الدولار يعادل أربع ليرات، هبط سعر الليرة بشكل سريع في الأيام العشرة الأخيرة، حتى تجاوزت عتبة ست ليرات للدولار الواحد، وبينما يرى العالم وكبار الاقتصاديين في تركيا أن هذا عارض لمشكلة اقتصادية عميقة، يراها أردوغان حربا اقتصادية على أنقرة، وناشد الناس تحويل الدولار والذهب إلى الليرة لدعم العملة المتراجعة، على أن مثل هذه الدعوات الغريبة لن تحل المشكلة الاقتصادية الكامنة، فالاقتصاد لا يؤمن بالأحزاب.
هناك قلق عالمي من طريقة إدارة أنقرة للشؤون الاقتصادية، وهناك من يرى مخاطر كبيرة على القطاع المصرفي، وبدلا من حل هذه القضايا، تثير أنقرة أزمة دبلوماسية مع الولايات المتحدة، ويثير أردوغان قلق الأسواق بسعيه إلى مزيد من النمو من دون قيود، وبدعمه نظريات اقتصادية غير تقليدية، مثل خفض معدلات الفائدة لخفض التضخم الذي بلغ نحو 16 في المائة على مدى عام. ورغم أن المصرف المركزي مستقل، لكنه يتعرض في الواقع لضغوط السلطة، فحجم الإقراض كبير؛ لأن ثلث القروض المصرفية بعملات أجنبية. وكان على الحكومة في تركيا مواجهة المشكلات العميقة بدلا من الهروب إلى الخارج، وتحميل جهات دولية نتائج تراكم السياسات الاقتصادية غير الملائمة. وقد جاء رد الرئيس الأمريكي على الأزمة الدبلوماسية مع تركيا بمضاعفة الرسوم الجمركية على الصلب والألمنيوم المستوردين من تركيا، وليس هذا وقتا ملائما للعملة والاقتصاد التركي، حيث عمق من المشكلة، وهذا يدل مرة أخرى على أن الحكومة في تركيا ما زالت تظن أن المشكلة لم تتجاوز سعر الصرف، والحقيقة أنها أعمق من ذلك بكثير، وأنها - إذا استمرت أنقرة في إنكار الحقيقة والهروب إلى الخارج - ستعصف بالاقتصاد التركي تماما، وهو ما جعل غرفة صناعة إسطنبول، أكبر الغرف التجارية التركية، تدعو إلى إجراءات عاجلة لاحتواء العواقب المحتملة للتراجع الحاد لليرة على الاقتصاد الحقيقي، مؤكدة أن التقلبات تحولت إلى مصدر لعدم الاستقرار المالي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي