الاستثمار في الكلام

تمثل الكلمة مكتوبة، أو منطوقة، الوسيلة الرئيسة للتواصل بين الشعوب والأمم لتبادل المصالح والتفاهم، ومعرفة أسرار الأمم السابقة، من خلال الآثار التي تركتها لاكتشاف حضارتها ومقومات حياتها، كما يفعل الآثاريون حين ينقبون في بقايا الأمم المندثرة، كحضارة الفراعنة، أو بهدف الاستفادة من المنتجات المعرفية والتقنية للأمم المعاصرة. ولذا، حرص كثيرون على تعلم لغات الأمم الأخرى حتى أصبح تعلم لغات الآخرين هدفا يسعى إليه، فافتتحت الجامعات كليات وأقسام للغات الأجنبية. الكلمة هي الوسيلة الرئيسة لنقل المعرفة وتجاوز الثقافات للحدود، وهذا ما أسهم في تعميق العلاقات بين الأمم. شدد القرآن على أهمية الكلمة، سواء كلمة حسنة أو سيئة، لما لها من أثر في النفس البشرية، وفي حسن التواصل والفهم والتفاهم بين الأطراف المتفاعلة فيما بينها، حتى وصفت الكلمة الطيبة بالشجرة المثمرة التي ينتفع الناس بثمرها، على عكس الكلمة السيئة نتائجها وخيمة، وتم تشبيهها بالشجرة الخبيثة التي لا قيمة لها في حياة الناس، لكن أثر الكلمة السيئة يبقى فيما نجده بين الناس من مشاحنات وعداوات ونفور قد تتوارثه الأجيال "ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار". من متابعتي لوسائل الإعلام وما يكتب ويقال في وسائل التواصل الاجتماعي، ألفيت تنوعا وتباينا فيما يكتب أو يقال، وهذا أمر طبيعي يعكس طبيعة الكاتب أو المتحدث وخلفيته ونوع الثقافة التي يحملها، إلا أنه يمكن تصنيف الناس على حسب ما يقولون، أو يكتبون، إلى ثلاث فئات، فئة تعهدت على كتابة ما ينفع الناس ويؤلف بين القلوب، لذا، نجدهم يجتهدون في تحري الكلمات بشكل دقيق حتى لا يجرحون مشاعر القراء أو المستمعين، وتلمس الإخلاص في قولهم، لأن الهدف بالنسبة لهم واضح، ألا وهو ترك الأثر الجيد، كأن يكون تصحيح مفهوم أو سعيا لهداية شخص، أو زيادة معرفة مجهولة للآخر. أما الفئة الأخرى فهي، فئة ديدنها اختيار أسوأ الكلم وأبشعه، والأكثر ضررا على الناس في علاقاتهم، وكأنهم خلقوا لإثارة الفتن واختلاق الأزمات والسعي لاستدامتها، حتى أن القارئ أو المستمع يحتار في الأسباب التي تحرضهم على فعل ذلك. هذه الفئة، أظن أن طبيعة شخصيتها ميالة إلى الشخصية الشريرة، لا ترتاح حتى ترى الآخرين يترنحون بتأثير هذه الكلمات السيئة المثيرة للحماقات، المعمقة للخلافات، الداسة للسم في العسل، المؤججة للتوترات، أما الاحتمال الثاني، فيتمثل في أن أفراد هذه الفئة يتكسبون بالكلام السيئ الرديء، الذي قد تكون له سوق في فترة من التاريخ، ومصالحهم مرتبطة بهذا النوع من الكلام، وينطبق عليهم المثل المصري القائل "هو أكل عيش"، ولذا، يسوقون رديء الكلام وفحشه بلا حياء، ولا حتى رادع نظامي، فيقزمون هذا ويسبون ذاك ويفترون على ثالث، حتى أصبحوا أعلاما في فحشهم وسوء منطقهم. الفئة الثالثة، فئة غريبة عجيبة تجدها متقلبة في نوع كلامها، فتارة تكتب وتقول الجميل، لكن لا تلبث أن تنقلب إلى ضده، فتورد السيئ البذيء من القول ولا تراعي ذمة ولا خلقا. ويفسر هذا السلوك، إما لاضطراب في الشخصية، فهي شخصية مزاجية غير منضبطة ولا مستقرة، أو أنه ينقصها عمق التفكير والدراية بالمواضيع التي يتم طرحها، ما يجعلها دون قناعة ثابتة، فهي تحرك أماكنها بسبب عدم العمق في الرؤية وضحالة المعلومات، كما أن من الأسباب اتباع الهوى وافتقاد الأحكام الموضوعية المبنية على المعايير والثوابت المتفق عليها بين أبناء المجتمع أو الإنسانية. التكسب بالكلمة ليس حديث عهد أو مرهون بحقبة تاريخية دون أخرى، ولا هو محدود بثقافة أو مجتمع دون آخر، بل منذ القدم نجد الشعراء يمجدون من يغدق عليهم المال ويرفعونه للسماء، لكن ما إن يجف الضرع حتى يتحقق العكس ويكون الشتم والسباب. فشعراء مثل جرير، والأخطل، والمتنبي، والحطيئة، وجدوا في الكلمة منطلقا لكسب عيشهم. ومن الشعراء العاميين، الشاعر حميدان، الذي جاب بلدات نجد ومدح وذم بناء على الاحتفاء والتكريم، أو العكس. وسائل التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام التقليدي تعج بأمثال هؤلاء الذين جعلوا أنفسهم فرجة للآخرين، يتندرون بهم وبأفعالهم الفاقدة للمنطق والمتجنبة للموضوعية. لا شك أن الكلمة تجارة رابحة عندما يكون لها أثر إيجابي في مستقبلها نفسه، يتمثل في طمأنينته وحبه وسعيه للخير ولمجتمعه والإنسانية، كما أنها تجارة لفريق آخر، بغض النظر عن آثارها المدمرة، طالما أنها تحقق مكاسب شخصية كالأموال والسمعة والظهور.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي