فتاوى الأطباء داء ودواء

تعد وسائل التواصل الاجتماعي أداة سهلة ومجانية للتواصل مع ملايين البشر، ما يفتح شهية الباحثين عن الشهرة من الصغار والكبار والرجال والنساء، ويدفعهم نحو ابتكار سبل جديدة للوصول إلى الناس، بعضها معقول ومقبول، وبعضها الآخر لا يخلو من "التهور" و"السخافة"، ولا يُستثنى من ذلك رجال السياسة، والاقتصاد، والأطباء، والمهندسون، والفنانون، والمثقفون، ورعاة الإبل والأغنام وغيرهم من عامة الناس. ولا أنكر عليهم طلب الشهرة، فمن كان له حيلة، فليحتل! ولكن من الغريب أن تصل الحال ببعضهم إلى أن يعرض نفسه أو أبناءه للخطر في سبيل كسب الظهور والشهرة، فمنهم من يقوم بإعداد القهوة وهو يقود السيارة بسرعة عالية، ومنهم من يصور ابنه الصغير وهو يمارس التدخين، وآخر يعبر سيولا عارمة ثم يغرق هو وسيارته نتيجة تهوره، وآخر يستبدل الماء "بدهن العود" عند قيام ضيوفه بغسل أيديهم بعد الأكل! ومن جهة أخرى، يلجأ بعض الناس (من غير المتخصصين والمؤهلين) إلى إجراء تجارب في مجالات الطب والهندسة وجميع شؤون الحياة دون مراعاة للإجراءات المتبعة عند إجراء التجارب العلمية. وأود التأكيد أن الإبداع في الابتكارات والاختراعات أمر رائع، وينبغي تشجيعه، ولكن "ما هكذا تورد الأبل يا سعد"!
لا يقتصر الأمر على الشباب والمتهورين، بل يشمل بعض المجتهدين غير المؤهلين في الدين الذين لا يتورعون من طرح آراء وفتاوى غير مدروسة، ولكن هذه الظاهرة – بحمد الله - بدأت تختفي إلى حد ما في الوقت الحاضر. وما كادت تختفي هذه الظاهرة حتى خرج علينا الأطباء فرادى وجماعات، يتسابقون في إصدار الفتاوى والإرشادات الطبية المتناقضة، وتزايدت أنشطتهم الإعلامية بعدما وجدوا الساحة مفتوحة لهم بعد انكماش الفتاوى الدينية غير المسؤولة وتناقص مسرحيات "الهياط" الاجتماعي!
أعتقد أن صحة الإنسان لا ينبغي أن تكون ساحة لإعداد "سنابات" أو "تغريدات" تحمل رسائل أو معلومات طبية متناقضة وغير مسؤولة. فليس من حق الطبيب أن يفتي في أمور لا يوجد لديه عنها دليل علمي أو دون إجراء بحوث وتجارب علمية؛ فصحة الناس ليست مجالا للآراء الشخصية والتكهنات. ولعل موضوع تناول "الأسبرين" يجسد الفكرة، فهناك أطباء يحذرون من استخدام "الأسبرين"، ويرون أن النصح باستخدامه لمن تجاوز الـ 50 يعد أكذوبة ينبغي الابتعاد عنها، وهذا يناقض سجلا طويلا من نصائح الأطباء باستخدام "الأسبرين" لمن تجاوز الـ 50. وتتعدد القصص، وتتكرر أخبار الادعاء باكتشاف علاج نهائي للسرطان، أو علاج نهائي للسكري في هذه الدولة العربية أو تلك! ومن أراد التأكد فما عليه إلا أن يستخدم محرك البحث "جوجل" ليجد أخبار الاكتشافات التي لم تلبث أن تذهب أدراج الرياح. وليس ببعيد عن الأذهان تكهنات بعض الأطباء حول سبب "الجرب" الذي انتشر في مدارس مكة المكرمة التي لا تستند إلى دراسات علمية كاللحوم الفاسدة أو العواصف الغبارية!
وفي ظل تزايد الفتاوى الطبية التي لا تستند إلى دراسات علمية أو براهين وحقائق علمية، لا أدري من المسؤول. هل المسؤولية تقع على الجمعيات العلمية ونقابات الأطباء، أم هيئات الغذاء والدواء، أم هيئة التخصصات الصحية، أم وزارة الصحة؟ بصرف النظر عن الجهة المسؤولة عن كبح جماح الراكضين وراء الشهرة على حساب صحة الناس، فإن الأمل كبير في أن يستشعر الأطباء مسؤولياتهم تجاه المجتمع من جهة، وخطورة الإرشادات أو الفتاوى الطبية غير المدروسة التي لا تستند إلى بحوث علمية رصينة من جهة أخرى، ومن ثم يركزون على التوعية الصحية التي تستند إلى نتائج البحوث العلمية والبراهين والأدلة الموثوقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي