الطلب يطغى على الأسعار كمحرك استراتيجي لسياسات الصناعة

ما الذي سيحدد الإجراءات التي تتخذها شركات النفط في السنوات المقبلة؟ من المستغرب أن الجواب قد لا يكون أسعار النفط ـــ بل الطلب على النفط على المدى الطويل. في الماضي القريب كانت شركات النفط واثقة بأن أعمالها ستستمر في نمو مطرد، إذ لا يرى معظمها ذروة في الطلب العالمي على النفط حتى عام 2040 أو بعد ذلك. لكن المستثمرين على المدى الطويل مثل الصناديق التقاعدية ليسوا متأكدين من ذلك.
على سبيل المثال، ستقوم مدينة نيويورك بتصفية صندوقها التقاعدي من استثمارات الوقود الأحفوري في غضون السنوات الخمس المقبلة، وتقاضي كبار شركات النفط العاملة في الولاية لاسترداد الأموال التي تقول إنها ستنفق لتحصين المدينة ضد تغير المناخ. وهذه الخطوة هي أحدث وأكبر إجراء ضد صناعة النفط من قبل بلدية أمريكية كبرى في محاولة منها لسحب استثمارات الوقود الأحفوري من الصناديق التقاعدية وفي الوقت نفسه تحديد من الذي ينبغي أن يدفع للبنية التحتية التي تحتاج إليها المدن الساحلية الكبيرة لحماية أنفسها من ارتفاع مستويات البحار. وهي تنبه محافظها الاستثمارية بشكل متزايد لخطر انتقال أسرع من المتوقع إلى مستقبل منخفض الكربون، وتضغط على الشركات أن تفعل الشيء نفسه.
ويبدو أن هذا الاختلاف في وجهات النظر بين الصناعة النفطية والمستثمرين سيؤثر بشدة في استراتيجيات الشركات، حيث يسعى المديرون التنفيذيون ليس فقط إلى عمل المستحيل في هذا الجانب، بل أيضا إلى التوفيق بينها وبين الديناميكيات التصاعدية على المدى القريب، على شكل طلب قوي وأسعار أكثر ثباتا.
وببساطة، فإن المستثمرين، على الرغم من التزامهم في الأغلب مع قطاع النفط، إلا أنهم يخشون على نحو متزايد من تحول عالمي إلى أسواق أكثر قسوة وأقل سعرا على المدى الطويل، ما يخفف من تأثير ما إذا كانت الأسعار اليوم 40 دولارا أو 60 دولارا أو 80 دولارا للبرميل. ويؤثر هذا التصور بشكل خاص في المشاريع التقليدية التي تحتاج إلى سنوات طويلة للتطوير وتستمر في العمل مدة طويلة. ولكنه يعزز أيضا تفضيل المستثمرين للعوائد المالية على النمو، ما يزيد من خطر التعامل مع ارتفاع أسعار النفط لتعظيم العوائد فقط، بدلا من الإشارة إلى أن هناك حاجة إلى مزيد من الإمدادات النفطية في الأجلين القصير والمتوسط.
من المؤكد أنه في الوقت الحاضر لا يوجد أي مؤشر على أن شركات النفط الكبرى ستفتح الإنفاق على مصراعيه في ظل أسعار النفط الحالية التي تراوح بين 60 و70 دولارا للبرميل. بعد أن خفضت الشركات الإنفاق الرأسمالي إلى النصف منذ انهيار الأسعار في عام 2014، يشيرون الآن إلى أنهم ينوون الحفاظ على هذه المستويات الدنيا حتى عام 2020 من خلال ضغط الإنفاق. ويهدف المسار الجديد لشركات النفط إلى تحقيق نمو مطرد في الإنتاج عند مستويات الاستثمار الحالية، مع تجنب كثير من الالتزامات الجديدة الطويلة الأجل من خلال زيادة التركيز على المشاريع ذات دورة التطوير القصيرة.
على سبيل المثال، تتطلع شركة رويال داتش شل إلى نمو في النفط الصخري والغاز في الولايات المتحدة وكندا والأرجنتين، وانضمت إلى هذا التوجه كل من شركتي إكسون موبيل وشيفرون. ومن المتوقع أن تنمو أكبر خمس شركات عالمية وهي إكسون، شل، شيفرون، توتال وبرتش بتروليوم بنسبة 3 في المائة سنويا في الفترة من عام 2017 إلى 2020، وفقا للبنك الكندي RBC، في حين ترفع النفقات الرأسمالية بنسبة 4.6 في المائة في السنة، وهذا الأخير سيبقى في عام 2020 نحو 45 في المائة أقل مما كان عليه في عام 2013.
ولا تزال الشركات الكبرى في حاجة إلى اعتماد بعض الاستثمارات التقليدية المتوسطة والطويلة الأجل لدعم الإنتاج واستبدال الاحتياطيات المستنزفة. لكن احتمال حصول ذروة في الطلب على النفط يجب أن تثبط توقعات الأسعار على المدى الطويل، ما قد يؤثر في الموافقات على المشروعات التي تزيد مدتها التشغيلية على 30 عاما. كما أن تصورات المستثمرين يمكن أن تسرع تحول الشركات الكبرى من النفط إلى الغاز، وتعزز تجربتها مع مصادر الطاقة المتجددة.
لكن على الرغم من كل تلك التحديات، ستواصل شركات النفط الكبرى استهداف موارد إضافية من خلال جولات العطاءات في أماكن مثل البرازيل وخليج المكسيك، وتتنافس بضراوة على أفضل فرص الاستكشاف في المناطق الساخنة مثل غينيا أو موريتانيا ـــ وذلك لتعويض الاحتياطيات المستنزفة وإضافة إنتاج منخفض التكلفة لاحتمال أسعار منخفضة في المستقبل. وإذا تم أخذ فكرة "ذروة الطلب" في الاعتبار، فإن ذلك يمكن أيضا أن يولد مزيدا من الفرص للشركات، مع تحسن الحصول على فرص في مشاريع المنبع وبشروط ميسرة من البلدان المضيفة، أو تحسن فرص الحصول على أصول من الشركات المتعثرة.
مع ذلك، يبدو أن أسواق الأسهم لا تقدم سوى قليل من الدعم: حيث إن الاكتشاف الأخير لشركة إكسون قبالة سواحل غينيا في الشهر الماضي، الذي رفع تقدير احتياطياتها هناك إلى 3.2 مليار برميل، تم تجاهله من قبل المستثمرين. وفي الأغلب تكافح شركات الاستكشاف العالمية من أجل الحصول على اهتمام المستثمرين والمقرضين، مع تشدد السيولة.
في بعض المناطق تم استقطاب المستثمرين الصينيين، ولكنهم يتراجعون أيضا. في حين يركز الداعمون لموارد النفط الصخري الأمريكي على المدى القريب، ولكن حتى في هذه الحالة، أجبر المنتجون على اعتماد مزيد من الانضباط في النفقات. وقد باعت شركات النفط الأمريكية المستقلة، مثل أناداركو وديفون،التي كانت نشطة في الحقول البحرية وخارج الولايات المتحدة، عديدا من الأصول لمضاعفة جهودها على موارد النفط الصخري، ولكنهم مع ذلك يواجهون استجوابا مكثفا من المستثمرين حول هذه الأصول المتبقية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي