«غوام» .. الجزيرة المنسية في بؤرة الضوء فجأة

قلة في العالم العربي هم من زاروا أو عرفوا شيئا عن "غوام" .. الجزيرة الخاضعة للولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب الأمريكية ــ الإسبانية في يونيو 1898، التي لا تزيد مساحتها على 550 كيلومترا مربعا ولا يسكنها سوى 180 ألف نسمة ممن يحملون جنسية الولايات المتحدة لكن لا يحق لهم التصويت في الانتخابات الأمريكية. وقلة هم من سمعوا أن أول من وطأها من الأوروبيين هو المستكشف الإسباني ماجلان في عام 1521، أو أنها استضافت نحو 100 ألف نسمة من اللاجئين الفيتناميين في عام 1975، ونحو 6600 لاجيء كردي في عام 1996. هذه الجزيرة التي ينحدر سكانها من أصول ميكرونيزية وفلبينية وتايوانية وصينية ويابانية ظلت منسية، لا أحد يأتي على ذكرها إلا لماما منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حينما استطاعت واشنطن إعادة إخضاعها للسيادة الأمريكية من بعد نحو عامين ونصف العام من الاحتلال الياباني. لكن "غوام" عادت هذه الأيام إلى الأضواء بقوة بـُعيد تهديدات زعيم كوريا الشمالية المخبول "كيم جونج أون" باستهدافها بصواريخ باليستية من ترسانته العسكرية الغامضة.
المعروف أن المناوشات والتهديدات بين واشنطن وبيونجيانج ليست وليدة اليوم، فقد سبقتها حالات من التأزم التي وصلت إلى شفير الهاوية كما هو معروف للجميع، لكن "غوام" لم تكن حاضرة بصراحة في الخطابات السابقة لزعماء بيونجيانج الستالينيين وتهديداتهم ووعيدهم. فما الذي حدا أخيرا بدكتاتور كوريا الشمالية أن يركز عليها ويقرر استهدافها؟
ربما كان السبب هو أن هذه الجزيرة، الواقعة على بعد أربعة آلاف ميل من هاواي إلى الغرب من المحيط الباسيفيكي، تشكل حجر الزاوية في الاستراتيجيات العسكرية الأمريكية في منطقة شمال شرق آسيا والهند الصينية. ولا ننسى في هذا السياق أن قاعدتها الجوية (أندرسين) قد لعبت دورا محوريا في الغارات الأمريكية على ما كان يعرف بفيتنام الشمالية وقوات الفييتكونج الشيوعية أثناء حرب فيتنام، كما أن قاعدة أندرسين تلعب منذ عام 2012 دورا مهما في التمارين العسكرية السنوية التي تجريها الولايات المتحدة مع حليفتيها الآسيويتين الكبيرتين في المحيط الباسفيكي، وهما اليابان وكوريا الجنوبية.
وربما كان السبب هو خطورة غوام على كوريا الشمالية، في ظل العداء المستحكم بين الجانبين، كونها تستضيف أكثر من ستة آلاف جندي أمريكي من قوات النخبة، وتوجد فيها قواعد متفرقة للقاذفات الجوية الأكثر تطويرا (مثل القاذفة بي 1 بي) وميناء للغواصات النووية ومقار لقوات العمليات الخاصة، الأمر الذي يعني قدرة واشنطن بسهولة على تفعيل كل هذه المقدرات العسكرية وتحريكها صوب شبه الجزيرة الكورية ومضيق تايوان إذا ما استدعت الضرورة، وبالتنسيق طبعا مع قواعدها العسكرية في اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان ومع حاملات طائراتها المنتشرة في المنطقة.
أو ربما كان للأمر علاقة بالموقع الجغرافي لجزيرة غوام. فهي الأرض الأمريكية الأقرب نسبيا إلى شواطئ كوريا الشمالية بدليل أنها لا تبعد عن الأخيرة إلا بمسافة 2200 ميل إلى الجنوب الشرقي، الأمر الذي يسهل على صواريخ بيونجيانج استهدافها في حال تصديقنا لتقارير الكوريين الشماليين حول دقة منظومتهم من الصواريخ الباليستية وتطورها وقدرتها على عبور المحيطات لمسافات طويلة.
وهذه التقارير يشكك فيها كثيرون ولاسيما مسؤولو الشطر الجنوبي من كوريا. فعلى سبيل المثال صرح نائب وزير الدفاع الكوري الجنوبي في أوج المعركة الخطابية الدائرة بين واشنطن وبيونجيانج أن الأخيرة لا تملك التكنولوجيات المتطورة التي تتيح لها إنتاج صواريخ قادرة على ضرب أهداف بعيدة المدى، وتفتقد في الوقت نفسه تقنيات إعادة إدخال الصاروخ إلى الغلاف الجوي للأرض، مضيفا أنها على بعد سنة أو سنتين من تطوير مثل تلك القدرات.
أما مراقبو الشأن الكوري فقد تحدثوا عن دوافع الاستفزازات الكورية الشمالية الأخيرة وأسباب حدة لهجة دكتاتورها أكثر من أي وقت مضى فقال البعض منهم إنها ذات صلة بقرار مجلس الأمن الدولي الأخير الذي شدد العقوبات على بيونجيانج بسبب استمرارها في تجاربها الباليستية المهددة للأمن والاستقرار في المنطقة والعالم، وخصوصا أن القرار جاء بموافقة أمريكية ــ صينية غير مسبوقة، ناهيك عما سبقه من إجراءات اتخذتها بكين مجبرة ــ بعد تزايد الشكوك حول دورها في دعم نظام الشمال الستاليني وعدم ممارسة نفوذها عليه للكف عن اللعب بالنار ــ ضد بيونجيانج حينما أوقفت نحو 90 في المائة من تجارتها معها، وهو ما يتوقع معه خسارة بيونجيانج لنحو مليار دولار سنويا من دخلها. بينما قال البعض الآخر إن التصعيد الكوري الشمالي له علاقة بالمناورات العسكرية الضخمة التي تنوي واشنطن وسيئول القيام بها في الفترة الواقعة بين 21 و31 من شهر أغسطس الجاري، وقرار طوكيو نشر منظومة لصواريخ باتريوت الأمريكية المضادة للصواريخ في عدد من المواقع التي يحتمل أن تحلق فوقها صواريخ بيونجيانج القادمة.
والحال أن سكان غوام الذين حبسوا أنفاسهم على مدى أسبوع من التهديدات النارية والتهديدات المضادة بين واشنطن وبيونجيانج تنفسوا الصعداء في منتصف الشهر الجاري مع إعلان الصبي المشاغب "كيم جونج أون" أنه جمد تنفيذ خطة إطلاق الصواريخ باتجاه جزيرة غوام، وإعلان واشنطن على لسان وزير خارجيتها "ريكس تيلرسون" أنها مستعدة للحوار مع نظام بيونجيانج إنْ التزمت الأخيرة بالتخلي عن سياساتها الاستفزازية. وقد قيل في أسباب تراجع الديكتاتور الكوري عن خططه إنها عائدة إلى أحد أمرين أو كليهما: رد فعل الرئيس ترمب الحازم الذي توعد فيه نظام بيونجيانج بـ "نار وغضب لم يشهد العالم لهما مثيلا من قبل"، وقيام كل من واشنطن وسيئول وطوكيو وتايبيه بوضع قواتها الجوية والبحرية وقدراتها النارية في حالة التأهب القصوى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي