التدابير السعرية .. وصناعة الوعي

لفت نظري في اتفاقية منظمة الصحة العالمية الإطارية بشأن مكافحة التبغ مصطلح "التدابير السعرية" باعتبارها إحدى الأدوات التي يمكن للدولة استخدامها للحد من الطلب على منتجات التبغ، حيث إن القوة الشرائية تلعب دورا كبيرا لتحويل الحاجة لتعاطي التبغ للطلب، وفي حال ارتفاع الأسعار لما هو أعلى من القدرة الشرائية فإن الاستهلاك سيتوقف أو يقل بشكل كبير، فالعنصر الاقتصادي حاسم في قضايا الطلب، والاستهلاك، والترشيد.
الرسوم، والضرائب، والغرامات المالية كلها كما يبدو لي تدابير سعرية تملكها الدول للتدخل في توجيه السلوكيات وتقويمها إذا عجزت التدابير غير السعرية كالتنظيم، والتثقيف، والتدريب، والحماية، والتوعية، ولا أحد منطقي يرفض استخدام التدابير الصحية لتوجيه السلوكيات نحو الأفضل وتقويم المعوج منها، ولذلك عندما لا يراعي المدخنون على سبيل المثال صحتهم وصحة من هم بجانبهم في المنزل والعمل والسوق والأماكن العامة على الرغم من التحذير والتنبيه والتوعية بمخاطر ما يقومون به من سلوكيات سلبية تجاه أنفسهم، وتجاه من حولهم، وتجاه البيئة، والاقتصاد، فإننا نشجع الدولة لاتخاذ تدابير سعرية عن طريق رفع الرسوم الجمركية، وعن طريق فرض الضرائب كضريبة السلع الانتقائية، وعن طريق الغرامات المالية عند التدخين في الأماكن الممنوعة لردعهم من ناحية، ولمساعدتهم على التخلص من سلوكياتهم السيئة من ناحية أخرى، وإلا فعليهم أن يتحملوا مسؤولياتهم ويدفعوا تكاليف تعنتهم وخضوعهم لهوى أنفسهم وشهواتها.
مثال آخر متعلق بالسلوكيات المتهورة لقادة السيارات كتجاوز الإشارة الحمراء أو السرعة الفائقة أو السير عكس الاتجاه وهو ما نشاهده بشكل دائم على الرغم من التدريب عند إصدار رخصة القيادة وعلى الرغم من التوعية والتنبيه والتحذير، وعلى الرغم من معرفة من يفعل هذه السلوكيات بخطورتها الأمر الذي دفع الناس للمطالبة بتغليظ العقوبات على المخالفين نتيجة ارتفاع معدلات الحوادث والإصابات والوفيات والخسائر المادية المليارية، واستجابت الدولة رعاها الله بتدابير سعرية جعلت مخالفة تجاوز الإشارة الحمراء على سبيل المثال 3000 ريال تضاعف لـ 6000 ريال عند التأخر في سدادها إضافة لتدابير أخرى تشمل التوقيف ليوم أو يومين حسب جسامة المخالفة وتكرارها، وبطبيعة الحال كلنا نؤيد ذلك، لأنه ببساطة يمكنك تجنب الغرامات المالية بالالتزام بالسلوك المروري القويم الذي يحافظ على سلامتك وسلامة مستخدمي الطريق.
أحد الأصدقاء يقول، إنه ذهب لمتنزه بري فوجد الناس تجلس بين أكوام المخلفات البلاستيكية والعضوية بشكل لا يطاق وعندما غادر معظمهم تركوا مخالفاتهم وراءهم ويتساءل، أين تعاليم الإسلام بشأن النظافة؟ أين التفكير المنطقي حيث احتمالية العودة للمتنزه مرات أخرى؟ أين الاهتمام بالبيئة كإحدى صور حب الوطن والحفاظ عليه؟ يقول من الواضح غياب كل ذلك فلا وعي، ولا مسؤولية، ولا تفكير منطقي، ولذلك يجب حضور التدابير السعرية بفرض الغرامات والصرامة في تطبيقها ليكون المكان نظيفا كما فعلت أمانة المنطقة الشرقية بفرض غرامة 200 ريال على من يرمي المخلفات في المتنزهات العامة ما أدى لنظافتها وإن كانت الغرامة قليلة جدا مقارنة بسوء الفعل.
آخر يقول على الرغم من أن الأرصفة من المرافق العامة التي يجب أن تحفظ من التعديات الفردية أو تعديات المحال والشركات إلا أن معظمها لا تصلح للمشي بسبب التعديات على الرغم من أن المتعدين عليها يعلمون أنها مرافق عامة وأنه لا حق لهم التعدي عليها وضمها أو أجزاء منها لأعمالهم الخاصة، ويقول، المعرفة والوعي لم يردعهم، ولو أن هناك تدابير سعرية متمثلة في غرامات مالية كبيرة تطبق بصرامة لرأيت الأمر خلاف ذلك تماما.
الردميات التي تشوه الأحياء وهي خليط من الصخور والتراب الذي يخرجه المقاولون عند بناء المساكن والمباني التجارية ومن مخلفات البناء ويتم رميها في الأراضي الفضاء داخل الأحياء وتترك دون أن تنقل إلى الأماكن المخصصة لذلك، بل إن الأمر أشد سوءا إذا تأتي سيارات نقل المخلفات من أماكن مختلفة لترميها في الأحياء في أواخر الليل وساعات الفجر الأولى دون رقيب أو حسيب، وأقول، لو أن تدابير سعرية تتمثل في مخالفات مالية كبيرة بالتزامن مع حجز السيارات المخالفة لأشهر طويلة، وعدم إيصال التيار الكهربي والخدمات للمباني المخالفة إلا بعد إزالة مخلفات البناء لرأينا الأحياء نظيفة ولا يعاني سكانها من التلوث البيئي البصري الذي قتل الذوق العام، كما حفز الناس على رمي المخلفات لكون الحي ليس نظيفا ولا يشجع الناس على النظافة.
للتدابير السعرية أهمية كبرى في تغيير السلوكيات وتشكيل الثقافات، حيث يعتاد الناس بسبب خوفهم على أموالهم على السلوكيات السوية شيئا فشيئا، حيث تكرار الفعل السوي خوفا من ضياع المال يجعله يصبح بمرور الزمن عادة لا يلبث أن يقتدي بها الصغار لتشيع في المجتمع بمرور الزمن، ولقد قال لي أحد الشباب، إنه وجد نفسه بعد مدة من القيادة في مناطق وجود "ساهر" لا يميل للسرعة حتى المناطق التي لا يوجد بها الرصد الإلكتروني، حيث اعتاد القيادة بسرعات لا تتجاوز المعدل، وهكذا الأمر لو أن الناس اعتادوا عدم رمي النفايات خوفا من الغرامات المالية ستجدهم وأبناءهم بعد مدة من الزمن يحافظون على نظافة الأماكن العامة كعادة اعتادوها.
إضافة لأهمية التدابير السعرية في تحويل السلوكيات الخاطئة إلى سلوكيات سوية يعتاد الإنسان عليها بمرور الزمن فإنه لها أهمية كبرى في منع الأطفال والنشء من الوقوع في هذه السلوكيات الخاطئة اقتداء بالكبار من جهة، ولعدم قدرتهم على ممارسة هذه السلوكيات خصوصا لجهة استهلاك المواد المضرة كالسجائر ومشروبات الطاقة من جهة أخرى حيث يصعب عليهم شراء هذه المنتجات بسبب ارتفاع أسعارها بما يفوق قدراتهم الشرائية الأمر الذي يجنبهم الوقوع بها ومن ثم الإدمان عليها.
ختاما نشد على أيدي المسؤولين الذين يفرضون تدابير سعرية للحد من المخالفات ومن الاستهلاك الضار لما لهذه التدابير من أثر كبير في تصحيح السلوكيات الخاطئة وإشاعة السلوكيات الصحيحة لتصبح ثقافة مجتمعية أصيلة بمرور الزمن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي