وكالات التصنيف لم تتعلم

"أيا كان تصنيف الأمة الائتماني فالناس دائما بحاجة إلى سقف فوق رؤوسهم، وطعام على موائدهم، ووقود في سياراتهم، وملابس على أجسادهم"
روبرت كيوساكي - مؤلف ورجل أعمال أمريكي

من الصعب العثور على جهة أو دولة أو حكومة أو مصرف أو أي هيئة عامة أو خاصة، لديها بعض من مشاعر "المحبة" لوكالات التصنيف الائتماني بكل أشكالها، ولا سيما تلك الوكالات الكبرى التي أصبحت جزءا من الحراك الاقتصادي العالمي، وربما جزءا من الهم الاقتصادي العالمي. البعض ينظر إليها، على أنها نذير شؤم حتى إن تحدثت عنك خيرا، وهي أكثر من مشؤومة إذا ما تناولتك من زاوية "الإدانة" الاقتصادية، وقامت بخفض التصنيف الائتماني لك. لا يهم هنا، إن كانت هذه الوكالات على حق في هذه "الإدانة" أم لا. إنها فقط عرضة مستدامة للكراهية، وهي من تلك الجهات التي تحب أن تكرهها. إنها ببساطة مثل المدرس المضطرب الذي يرى حتى النجاح الجيد سقوطا.
كان طبيعيا ألا تحظى وكالات التصنيف الائتماني بأي نصير لها على الساحة العالمية، ولاسيما الثلاث الكبرى (فيتش، وستاندارد آند بورز، وموديز)، ليس فقط لأنها تعلن (دون إحراج) عن "رسوب" اقتصاد هذه الدول في هذا الفصل أو ذلك، بل لأن علامات الاستفهام حول الوكالات نفسها، ومصداقيتها، ونزاهتها، وجدوى الاعتماد عليها، والطرق التي تتبعها في أداء عملها، علامات كبيرة ومتعددة إلى درجة الاستغراب. فكما تطلق هذه الوكالات أحكامها وتقييماتها من خلال الدرجات، كذلك هي محل تقييم من جانب الجهات التي "اكتوت بنارها" على مدى عقود، إلى جانب تاريخها الذي ظل مستورا (أو غير مكشوف تخفيفا)، حتى انفضح في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت عام 2008.
في كتابي الأول عن هذه الأزمة الذي صدر في عام 2009 تحت عنوان "في الأزمة"، نشرت فصلا كاملا عن وكالات التصنيف حمل اسم "عملوا البحر طحينة". قصدت وقتها من هذا التوصيف، أن الوكالات "الملوثة" قامت بتسويق مؤسسات ومصارف كبرى بصورة مضللة، من خلال منحها تصنيفات عالية بل ممتازة على فترات طويلة. الذي حدث (كما يعرف الجميع)، أن هذه المؤسسات والمصارف والشركات، انهارت بعد دقائق من انفجار الأزمة، وكانت سرعة انهيارها فلكية. لا مبالغة إذا اعتبرنا أن وكالات التصنيف أسهمت بصورة أو بأخرى في الانهيار الاقتصادي الكبير، من خلال أكبر وأطول عملية تضليل عرفها العالم منذ أن تأسس اقتصاد ما بعد الحرب العالمية الثانية. هذه الوكالات (بعد الأزمة) خفضت أصواتها، في وقت ظهرت فيه أصوات تدعو لإصلاح الوكالات نفسها في سياق الإصلاح الاقتصادي الذي فرضته الأزمة.
ليس واضحا أن وكالات التصنيف (ومرة أخرى الكبرى منها) تعلمت درس الأزمة، وإن أقدمت بالفعل على إدخال بعض الإصلاحات الذاتية. ولعل السبب الرئيس في كل هذا، يبقى على حاله، وهو أنه لا يمكن أن تحصل على النزاهة المطلوبة من جهة تدفع لها أنت من أجل تقييمك! فالتملق وارد، والتضليل حاضر، وتضارب المصالح موجود على مدار الساعة. بمعنى، أن الوكالات ليست مستقلة تماما، كما أن استمراريتها مرتبطة بالعوائد المالية الآتية من الجهات المستهدفة ذاتها. هذه إشكالية لا يمكن أن تحل، أو أن تدخل ضمن إطار الحلول الوسط. وأخيرا، سقطت وكالات التصنيف المعنية على "جبهة" التعاطي مع الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، وكذلك الأمر مع تصنيفاتها لعدد من البلدان بما فيها دول خليجية. بل إن بعض تقييمات الوكالات تعارضت بصورة فاضحة مع بعضها البعض حول الجهة نفسها الخاضعة للتقييم!
هل انكشف أمر وكالات التصنيف الآن؟ بالطبع لا، لأن الأزمة الاقتصادية العالمية تمثل نقطة التحول الفاضحة لهذه الجهات المتخصصة بالتصنيفات. هل تعلمت من الدروس؟ بالتأكيد لا، لأنها لا تزال تعتمد على المناهج نفسها التي انطلقت منها منذ البداية. هل تمكنت من الحصول على "حب صادق" من جهة ما حكومية كانت أم خاصة؟ الجواب: لا لا لا. ولعل السؤال الأهم هنا يبقى، هل من جدوى أصلا لوجود وكالات التصنيف على الساحة؟ تتجه الأمور إلى غير مصلحة مستقبل الوكالات المشار إليها. فقد وجد عديد من المستثمرين أن ما يمكن وصفه بـ "صناعة التصنيف" بات صناعة بائدة. والسبب في ذلك، أن كثيرا من المؤسسات والشركات والحكومات وغيرها، يستخدم بحوثه الخاصة.
لا يمكن اعتبار أن كل ما قامت به وكالات التصنيف كان سيئا أو مشوشا أو مضللا، لأنها قدمت بالفعل تصنيفات أثبتت بعد ذلك صحتها الحقيقية في السوق والأداء الاقتصادي. لكن المشكلة الكبرى تبقى حتى لو لم تخطئ الوكالات في شيء. وهي أنه لا يمكن أن يكون هناك تقييم عادل لجهة تدفع لك لتصنيفها. تم في السابق اقتراح أن تكون هناك جهات تتبع مؤسسات دولية كبرى تقوم بهذه المهمة. غير أن ضمانات عدم التأثر بسياسات الدول ليست موجودة، بل ربما تكون هذه الجهات أسوأ من وكالات التصنيف نفسها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي