الديون.. أطول مسلسل رعب

«أدعو الله أن يساعد الأجيال المقبلة على مواجهة الدين الوطني»

هيربريت هوفر الرئيس الـ 31 للولايات المتحدة

في ديون الدول، ليس هناك بلدان فقيرة وأخرى غنية. الكل في الهم مشترك، والكل يعاني بصورة مختلفة ضغوط الديون ومنغصاتها وروابطها وأعبائها المستقبلية، دون أن ننسى المهانة التي قد يتعرض لها هذا البلد أو ذاك، لمجرد وجود إمكانية التعثر في السداد، أو التفكير في الطلب من الجهات الدائنة إعادة صياغة شروط الدين، وغير ذلك من الأمور التي تجعل من حكومات البلدان الدائنة والمدينة، تتوسل ليلة نوم هانئة. إنها في النهاية "آلام" الديون الحالية والمؤجلة. بل هي الوباء الذي لا ينتهي إلا بنهاية واضحة وحاسمة وأبدية للديون. يقول الذي اكتسب توصيف "أب الدستور الأمريكي" بنيجامين فرانكلين: "خير لي أن أذهب إلى فراشي بلا عشاء، من أن أستيقظ صباحا لأواجه الديون". لم يحدث في التاريخ، أن برزت إشادة ما بالديون، حتى على سبيل الخطأ!
إنها ببساطة مصيبة طويلة الأمد بالتقسيط. هناك من نجح بالفعل في التغلب عليها، بمعنى أنه تعاطى معها بالشروط التي قبلها والتزم بها. لكن نسبة هؤلاء ضئيلة، والحالات الناجحة في هذا الأمر، تبقى نادرة جدا. وفي أغلب الحالات، أنها مسلسل من الرعب اليومي، سرعان ما يتحول إلى غضب واتهامات ونعوت بالفشل وعدم المسؤولية، إلى آخر التوصيفات التي راجت بشكل كبير في أعقاب استفحال أزمة الديون اليونانية. في الديون والخلاف حولها، تهبط مستويات حتى السلوكيات السياسية والتفاوضية، وتتسم العلاقات بين أطراف المعادلة المديونية، بـ "سوقية" لا أحد يتوقع أن تكون موجودة بينها. ويبدو أنه، كما للديون أعباؤها والتزاماتها وقيودها، كذلك لها "ثقافتها" التي تؤثر في السلوكيات والمعايير في آن معا.
الديون تشمل الجميع تقريبا في هذا العالم المتقلب، بل الذي يعيش فوضى لا تزال حاضرة بصورة مختلفة منذ انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008. وهي (أي الديون) تكبل المدين والدائن. فحتى البلدان الدائنة غارقة في ديونها، إلى درجة أن تجاوز بعضها الناتج الإجمالي المحلي أكثر من مرة! هذه مثلا اليابان، التي بلغ حجم دينها أكثر من 246 في المائة من إجمالي ناتجها، وإيطاليا 133.68 في المائة، وأيرلندا 107.75 في المائة، والبرتغال أكثر من 129 في المائة، وإسبانيا 100 في المائة، والولايات المتحدة 105.06. ولا تختلف هذه النسبة الأخيرة عن نسبة الدين العام لقبرص الذي سجل 105.67، وفرنسا أكثر من 97 في المائة، وسنغافورة 97.77 في المائة وهكذا. لا أحد أحسن من أحد، كما يقال.
لكن المسألة هنا لا تتعلق بأن العالم كله يعيش في محيطات وبحار من الديون، بل بقدرة البلدان المدينة على تسديد ديونها، والأهم حجم استطاعتها على تطبيق سلسلة من الإجراءات الاقتصادية غير الشعبية، من أجل النمو الذي سيزيد بالطبع من قدرة البلاد على التسديد، أو على الأقل عدم الوصول إلى نقطة قريبة من حالة التعثر. والحالة المشار إليها هي بالفعل كارثة على كل الأطراف، وفي مقدمتها شعوب البلدان المتعثرة عن ديونها. لقد بلغ التعثر في اليونان (على سبيل المثال)، حدا عجز السكان حتى عن شراء حاجياتهم الأساسية بما في ذلك الخبز والدواء، علما بأنهم يعملون أو يحصلون على رواتب تقاعدية وفق الأنظمة المعمول بها. حدث هذا في القارة الأوروبية نفسها، صحيح أن الأوروبيين تحركوا في النهاية، لكن الأمر حدث بالفعل، واحتل مكانته في التاريخ.
اليونان كانت الشرارة التي أطلقت حول عدد من البلدان الأخرى، التي تعيش ما يمكن توصيفه بـ "البشاعة" الاقتصادية. هذه البلدان معرضة بشكل مرجح للتعثر في السداد، ما يعني أن العالم سيواجه هزات عنيفة أخرى، مع فارق واحد، أن الأوروبيين لم يقبلوا انهيار اليونان الاقتصادي، وتدخلوا، بصرف النظر عن الإهانات والردح السياسي. أما البلدان المرشحة لعدم السداد، فلا يبدو أنها تحظى بقوة سند مشابهة لتلك التي جاءت من منطقة اليورو. هناك أوكرانيا، والأرجنتين وفنزويلا وروسيا البيضاء وبليز وجامايكا، يمكن أن تعلن في أي لحظة تعثرها في السداد. مع ضرورة الإشارة، إلى أن بلدان أوروبية أخرى لم تخرج من دائرة الخطر، بما في ذلك قبرص والبرتغال وإيطاليا وحتى إسبانيا.
نحن نعيش في عالم غارق في المديونية. فالدائن نفسه مدين! والمدين يبقى في دائرة الشك والريبة والإهانة حتى يستوفي تسديد ديونه. لكن المصيبة، أن الديون التي تبدأ صغيرة، لا تنتهي كما بدأت، بل تكبر وتتضخم وتتوسع وتتوحش وتهدد، على فترات زمنية طويلة. فكلما كان النمو غائبا عن الساحة المحلية، تضخم حجم الديون. ولذلك فإنها تصل في بعض الحالات إلى أكبر مما يتحمله البلد المدين. وهنا يُطلب العون. غير أن هذا الأخير ليس مضمونا في غالبية مناطق هذا العالم المدين، خصوصا عندما تتناقص أعداد المنقذين، وتزداد أعداد الغارقين. الخوف (مستقبلا) ألا يكون في الساحة سوى الغارقين فقط!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي