حين ينهي المدير التنفيذي عمله

25 عاما من الإدارة التنفيذية والتضحية والانضباط والإنجازات والسمعة القوية المتميزة تم اختزالها في كلمة "سابق". هذا كل ما خرج به بعد فترة عطائه النظامي في عمله السابق، وهو الآن يستمتع ــــ مع بعض أحاسيس الملل والغربة ــــ بساعات فراغه التي يقضيها في تناقض، بين ما اعتاد عليه من بذل وبين ما يجده اليوم من سكون.
سكب التجربة في قوالب مختلفة أحد فنون الحياة، هي مهارة قابلة للتعلم وتعود بالنفع على صاحب المهارة والمستفيد منها وتتسع آثارها لتصنع رافدا حيويا من أهم روافد التنمية في المجتمع. أحد أمتع هذه الأساليب يدور حول مساعدة الآخرين بالبناء على التجارب الشخصية المميزة؛ ومن ذلك تقديم الإرشاد والتوجيه المباشر للأفراد والتفاعل في الفعاليات وورش العمل والكتابة المنتظمة في المدونات والمطبوعات والمشاركة الإيجابية في وسائل الإعلام والدوائر الاجتماعية المختلفة.
أقابل أحيانا نماذج رائعة من المهنيين ذوي الخبرة الذين يجودون بوقتهم لتحفيز الشباب وتوجيههم، وأقابل أيضا من الشباب من تغيرت حياته بعد كلمة محفزة أو سلوك مؤثر يحتذي به. لكن من الناحية الكمية، تشكل هذه النماذج الرائعة نسبة ضئيلة جدا من الواقع. كثيرون يبتعدون عن العطاء خارج إطار ساعات الدوام وربما حتى لا يستطيع بعضهم الخروج عن دائرة مهامه الرسمية، هو لا يعلم أن المهنية الحقيقية تقتضي ممارسة المسؤولية الاجتماعية الفردية بكل أبعادها الممكنة.
يملك معظم التنفيذيين والمديرين السعوديين خبرة مميزة عاصروا بها عديدا من المشكلات والتحديات. لقد صاحبتهم تطورات الأنظمة وتغيرات الظروف في رحلة طويلة رافقهم خلالها عديد من أصحاب الجنسيات والخلفيات المختلفة. لكن بعضهم، بعد التقاعد، لا ينطق حتى بعبارة واحدة من النصيحة للشباب، ربما يظن أنه لا يملك الوقت أو لا يملك ما يستحق الحديث به، وهنا مغالطتان كبيرتان.
أما الوقت، فمحدده الأساسي يرتبط بالسؤال الافتراضي: "هل ما سأمضيه من دقائق في نصح الآخرين وتوجيههم يعود بالنفع عليهم، أو علي، أو على المجتمع؟" الجواب هو نعم بكل تأكيد! حتى لو كانت اهتمامات الشباب مختلفة، حتى لو وجد هذا الخبير صعوبة في فهم بعض قضايا الشباب المتجددة، وحتى لو استهلك هؤلاء الشباب "المتطلبون" جل وقت هذا المتقاعد. قد يمارس الخبير هنا أكثر من دور، وكلها مهمة ومفيدة؛ منها ما يقوم بتأكيد توجهات الشاب ودعمه وتشجيعه، ومنها ما يقوم على سد الفراغ المعرفي والنوعي، ومنها ما يقوم على مساعدته على اتخاذ القرار وربط المعطيات بطرق أكثر واقعية وكفاءة.
هناك من يعتقد أن معرفته غير محدثة وبالية، وأن التغيرات التي تحدث سريعا في تكويننا الثقافي والمعرفي تشعره بالحرج، فلا هو يفهم ما يحدث ولا يظن أن الغير ــــ خصوصا الشباب ــــ سيفهمونه. على الرغم من أن عصرية التفكير مطلب مهم، إلا أن بعض مكونات الخبرة لا تبلى بالزمن.
أحدهم، وهو ممارس متقن لإدارة المشاريع، دعي لإلقاء كلمة إلى طلاب الإدارة في إحدى الكليات، فقال مقللا من معرفته: "وماذا أعرف أنا؟" على الرغم من أنه ممارس حقيقي للتخطيط وإدارة الوقت وتنسيق المهام والمتابعة والتعامل مع تحديات البيئة المحلية، ويستطيع عكس بعض المقتطفات بعفوية وتأثير معتبر، وربما يخرج بمهارات جديدة في فنون التأثير والعطاء.
رصيد الحكمة الأصيلة مرن وقابل للاستخدام في شتى المواقف والظروف. المهارة اللطيفة التي يحتاج إليها صاحب الخبرة هنا تتعلق بتسخير تجاربه للغير والتفريق بدقة بين خبراته القابلة للانتقال والتدوير وبين خبراته التي تستحق النسيان.
الفارق الزمني بين درس المتقاعد وموقف الشاب الذي قد يحتاج فيه إلى هذا الدرس قد يصل إلى عشرات السنين. ولكن القرب من الشباب واحتياجاتهم يجعل هذا الفارق ضئيلا وغير مؤثر. وهذا ما ينعم به بعض المرشدين والموجهين المؤثرين الذين جالوا في معترك الحياة ثم عادوا واقتربوا من الأجيال التالية لهم، فضخموا من عوائد تجاربهم وحفزوا تجارب غيرهم للنمو والتطوير.
يجسد المتقاعد الفرصة المفقودة بوضوح، لكن حتى من لم يتقاعد بعد يشاركه بها. من أصحاب الخبرة الذين لا يزالون على رأس العمل من يملك كل مقومات التأثير الجيد وهو لا يزال في منتصف حياته العملية، خصوصا الجيل المتصاعد من القياديين الشباب. لذا، تكبر فرص الشباب الذين يبدأون مبكرا في التعلم والتعليم وفي الممارسة والتوجيه، فخبرة السنوات العشر مفيدة وخبرة الخمس وخبرة السنتين كذلك. بل إننا نجد كثيرا من طلاب الجامعة في السنوات الدراسية المتقدمة من يمارسون هذه المهارات مبكرا ويشتركون في توجيه وإرشاد الطلاب الجدد، وهي مهارة قابلة للتطور إذا ما مورست بصفة مستمرة، من بداية عملية التعلم حتى آخر نهاياته.
تنتشر المنشآت الوطنية في كل مدن المملكة وتنتشر الخبرات المتميزة في معظمها، والمأمول أن تتحول القيادات والخبرات المتوزعة في هذه الأماكن إلى مراكز لإعادة توزيع المعرفة والمهارة. تكوين النسيج المهني الاجتماعي لا يتطور إلا بمثل هذه المجهودات، وهي مجهودات سخية مؤثرة تصنع لكل فرد سجله الشخصي الوافي من العطاء الذي يرد به الدين لمجتمعه. ولمن لا يعرف أين يبدأ، عليه بالشبكات الإرشادية والمهنية، نعم معظمها في مراحل التأسيس ولكنها بدأت بالفعل في تحقيق النجاحات المبهرة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي