أخي الوزير: لا تخترع العجلة من جديد

أكملُ من حيث انتهيت في المقال الأخير "ما المطلوب إنجازه من الوزراء؟"، والذي ألخصه في التالي، (1) أن شروط إنجاز ونجاح الأجهزة الحكومية كافة في أداء المهام والمسؤوليات الموكلة إليها، بدءا من أعلى هرمها إلى أسفله، مرهون بوجود رؤية استراتيجية شاملة كبديل لخطط التنمية. (2) وأن برنامج عمل أي وزارة أو أي جهاز حكومي يجب أن يخضع لتلك الرؤية الاستراتيجية الشاملة، وليس لأي جهاز حكومي أن يبتكر العجلة من جديد، أو أن يغرد خارج السرب الوطني والخط العام لتلك الرؤية الشاملة. (3) أن عمل أي جهاز حكومي وفقا لهذه الرؤية الشاملة، يعني شراكة مستدامة لا تنفك أبدا عن كل من، (3-1) الأجهزة الحكومية الأخرى. (3-2) كيانات القطاع الخاص. (3-3) المواطن والمجتمع، تأخذ تلك الشراكة في عين الاعتبار الكامل مصلحة تلك الأطراف الشريكة استراتيجيا، وأن يتحقق الأداء وفق منظور تكاملي لا تنافسي أو متناقض، فلا يمكن اعتباره نجاحا يذكر لأي جهاز حكومي مهما كان؛ إذا أتى على حساب الإضرار أو التعطيل لأداء طرف آخر من تلك الأطراف الثلاثة المذكورة أعلاه.
ماذا يريد المواطن والمجتمع عموما؟ هذا سؤال محوري يجب أن يمثل الجزء الأكبر من الأرض الصلبة التي ستبنى عليها تلك الرؤية الاستراتيجية الشاملة، وأن يمتد الاهتمام به إلى ما بعد تصميم تلك الرؤية دخولا في التفاصيل التنفيذية المتعلقة بأداء ومسؤوليات كل جهاز حكومي.
يطمح أي مجتمع "كل إنسان ينتمي إليه" إلى توافر واكتمال ما يلي، (1) الرعاية الصحية الكفء. (2) التعليم المتطور الكفء. (3) فرص العمل الملائم والدخل الكافي. (4) تملك المسكن بأقل التكاليف. (5) بيئة الحياة المصانة بالأنظمة والقوانين العدلية الحافظة للحقوق والواجبات، والمحققة لاشتراطات الأمن والأمان المستدام والشامل. (6) توافر الخدمات البلدية والنقل والاتصالات والبنى التحتية المكتملة. هذه أهم المتطلبات الأساسية لأي فرد وأي مجتمع، والنجاح في تحقيقها يحمل في حقيقته مؤشرات إيجابية على كفاءة الأطر والسياسات والأنظمة الحاكمة لذلك البلد ومجتمعه، كما يعني القصور في أي منها عدم كفاءة تلك الأطر والسياسات، الذي يقتضي بدوره ضرورة إصلاح وتصحيح مصادر الخلل والقصور التي أدت إليه! هذا هو النظام السهل الممتنع الذي من خلاله تفوقت وتقدمت مجتمعات، وباختلاله أو فقدانه تأخرت وتردت مجتمعات أخرى.
أرجو أن تكون قد اتضح حتى الآن أهمية وجود هذه الرؤية الاستراتيجية الشاملة، وأنها بمثابة صمام الأمان اللازم للسير في الحياة على هدى ورشاد مبين، يتم من خلالها تحديد الأهداف النهائية، وتحديد التحديات والمخاطر، وتحديد الموارد اللازمة، وتوزيع المهام والمسؤوليات، كل ذلك يمكن إتمامه في إطار واضح ومحدد البنود، ويرتبط في نهاية المطاف بقيام مبدأ الثواب حال التحقق والتنفيذ للمهام والمسؤوليات، وأيضا مبدأ العقاب حال التأخر أو القصور أو الخلل تجاه ذات المهام والمسؤوليات.
إذا؛ انطلاقا مما تقدم ذكره أعلاه في خصوص متطلبات أو طموحات أي مجتمع كان، يمكن توصيف محددات المستوى الثاني من الإطار اللازم لتلك الرؤية الاستراتيجية الشاملة، التي من أهمها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي، (1) التغلب على أوجه قصور أداء الأجهزة الحكومية، ووضع الحلول الكفيلة بالقضاء عليها، ويكفي الإشارة هنا إلى بعض نتائج هذا القصور الظاهرة في تأخر مستوى الرعاية الصحية، وضعف كفاءة التعليم ومخرجاته، وتأخر تنفيذ المشروعات الحكومية بفاتورة تتجاوز 1.2 تريليون ريال حتى تاريخه. (2) معالجة أسباب تأخر تنويع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الوطني، التي أدت إلى تشكل عديد من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى، وأبقت الاقتصاد الوطني ريعيا أكثر منه إنتاجها، وتسببت في تفاقم أزمات سوق العمل، وتحول السوقين المالية والعقارية إلى مرتع للمضاربات، وأضعفت من دخل بدائل النفط.
(3) التغلب على التشوهات التي أفضت إلى الاستهلاك المفرط لمواردنا من الطاقة الناضبة، ومن حسن الحظ ومما يدعو للتفاؤل الكبير؛ أن هذا الملف يقع اليوم بيد حديدية وطنية ممثلة في المركز السعودي لكفاءة الطاقة. (4) إيجاد البرامج والمحفزات المعالجة لتفاوت مستويات التنمية بين المناطق الحضرية الكبرى من جهة، ومن جهة أخرى المناطق الحضرية الصغرى "النائية"، التي سيؤدي النجاح فيها إلى معالجة الكثير من أوجه الأزمات الأخرى المرتبطة ببيئة الاستثمار المحلية، وأزمات التركز السكاني في المدن الرئيسة، وما نتج عنها من أزمات في سوقي العقار والعمل، وكذلك الزيادة المفرطة في الطلب على الخدمات وموارد الطاقة. (5) معالجة التشوهات في سوق الإسكان والعقار. (6) معالجة هشاشة سوق العمل، وافتقاره إلى القدرة على إيجاد الوظائف الإنتاجية الملائمة من حيث التعليم والدخل.
(7) القضاء على أوجه الفساد الإداري والمالي والاقتصادي بصورة عامة "الحكومة، القطاع الخاص"، ووضع منهجيات أكثر شمولا، وأقوى فعالية في إطار مواجهة هذا الخطر، وتبني المنهجيات الاستباقية لوقوعه عوضا عن مجرد مطاردة ظواهره السطحية، وهو منهج يتطلب إضفاء المزيد من الشفافية والمساءلة ومنح مزيد من الصلاحيات للأجهزة المعنية بمحاربته، وفي الوقت ذاته منح مزيد من الحرية المسؤولة للإعلام المحلي للحديث والكشف عنه. هذا يعني في حقيقته ضرورة تبني منهجية أكثر شمولية وفعالية من مجرد وجود هيئة وطنية لمكافحة الفساد!
(8) ضرورة العمل على ضمان الأمن المائي والغذائي للبلاد والعباد، وتبني خطوات أكثر فعالية في هذا الشأن المقلق لأي بلد في العالم، فما بالك وأنت تتحدث عن بلاد بحجمها العملاق كبلادنا، تعاني كثيرا من ندرة المياه ومصادر الغذاء والزراعة، وهو أحد أكبر وأخطر التحديات إن لم يكن أكبرها وأخطرها؛ الواجب تسخير الموارد المالية الكافية ورفع الاحتياطات اللازمة لمواجهته. (9) تبني المزيد من التشريعات، وتأسيس الكيانات الحكومية بالشراكة مع القطاع الخاص، الهادفة إلى زيادة دعم المنشآت المتوسطة والصغيرة، وإلى تبني وتمويل مشروعات الشرائح الشابة، وهذا يتطلب تخصيص رؤوس أموال جريئة، يتم استقطاعها من دخل النفط وتخصيص صندوق حكومي خاص لها، وضخها من ثم في تمويل تلك المشروعات الناشئة، ولا يقف الدعم الحكومي عند هذا الحد! بل يجب أن تتوسع دائرته إلى تقديم الدعم اللوجستي والإداري والاستشارات اللازمة لتطور وتوسع نشاطات تلك المشروعات. باختصار؛ لا يمكن تصور العوائد المستقبلية على الاقتصاد والمجتمع للنجاح المأمول لتلك المشروعات الناشئة، ولا أدل عليها من التجارب الناجحة المماثلة التي تحققت في عديد من البلدان الصناعية المتقدمة.
(10) أخيرا؛ أدى تضخم وجود الملايين من العمالة الوافدة المتدنية المهارات والتعليم، ومن جانب آخر تأخر تطور القدرة الإنتاجية للاقتصاد الوطني "تنويع القاعدة الإنتاجية"، إلى تفاقم أشكال اقتصاد الظل على يد تلك العمالة، ووقوفها خلف الكثير من النتائج السلبية التي يعاني منها كل من الاقتصاد والمجتمع، لهذا فإن تقدم وتحقق الكثير من المتطلبات أعلاه سيسهم في القضاء على هذه الآفة الاقتصادية المدمرة. وللحديث تتمة قادمة بإذن الله تعالى. والله ولي التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي