جريمة استباق أوامر العملاء

لدى الوسطاء المرخصين من قبل هيئة السوق المالية مسؤولية كبيرة تجاه عملائهم من المستثمرين، أهمها ألا يقوم الوسيط باستباق العميل إلى السوق، فيشتري لصالحه قبل وصول أمر شراء كبير، أو يبيع قبل وصول أمر بيع كبير. مثل هذه الممارسات الخطيرة وغير الأخلاقية تندرج ضمن ما يعرف باستباق أوامر العملاء front-running، وهي من الأعمال المحظورة في جميع الأسواق المالية. هل تمارس هذه الأعمال الإجرامية في سوق الأسهم السعودية؟
تعرّف بورصة نازداك ظاهرة استباق أوامر العملاء على أنها قيام الوسيط بإدخال أمر شراء أو بيع خاص به مع العلم المسبق بوجود أمر شراء أو بيع لعميل من شأنه تغيير حركة السهم. على سبيل المثال، قد يقوم وسيط بتأخير طلب عميل لشراء 100 ألف سهم من أحد الأسهم حتى يقوم هو بإدخال أمر شراء خاص به للسهم ذاته، وذلك لعلمه أن سعر السهم سيرتفع نتيجة تنفيذ أمر العميل، ثم يقوم ببيع الأسهم التي اشتراها ويحقق ربحا شبه خال من المخاطرة. لا شك أن مزاولة مثل هذه العمليات مغرية جداً لمن يجد نفسه في موقف يسمح له القيام بذلك. تخيل لو أن أحد الوسطاء قام ببرمجة جهاز التداول لديه بحيث يقوم آلياً بقراءة أمر العميل، ومن ثم بناء على سعر الطلب وكميته يقوم جهاز العميل بإدخال أوامر خاصة بالوسيط قبل إرسال أمر العميل إلى السوق! تخيل كذلك لو أن جهاز الوسيط اكتشف أن عميله أحمد لديه أمر بيع بسعر 29,75 ريال وعميله محمد لديه أمر شراء بسعر 30 ريالا، فيقوم بالشراء من أحمد والبيع لمحمد! ولك أن تتخيل مدى الفرص الممكن التلاعب بها إذا علمنا أن نظام السوق المالية لا يسمح للعميل برؤية أكثر من خمسة مستويات للأسعار، بينما يمكن للوسيط الاطلاع على عمق أكثر لمستويات الأسعار.
المشكلة تأخذ طابعاً أعلى حدة وأشد ضرراً مما ذكر أعلاه إن تمت هذه العملية في أروقة صناديق الاستثمار، حيث يمكن تنفيذ هذه الجريمة بلا حاجة إلى أجهزة إلكترونية معقدة ولا سرعة عالية، نتيجة وجود مساحة زمنية كافية لدى مدير الصندوق للتخطيط والتنفيذ، يساعده على ذلك ضخامة حجم أوامر البيع والشراء. ضع نفسك في مكان أحد مديري صناديق الاستثمار ممن لديه أصول تتجاوز قيمتها خمسة مليارات ريال - في أوقات سابقة كانت هناك صناديق بأكثر من 20 مليار ريال - وتتخذ قراراً لشراء مليون سهم من إحدى الشركات على عدة دفعات خلال الأسبوع القادم، الأمر الذي لا شك سيؤدي إلى ارتفاع سعر السهم بعدة ريالات بعد انتهاء عملية الشراء. وفي مكان آخر لديك حساب استثماري باسمك أو باسم أحد أقربائك يحتوي على مليون ريال جاهزة للاستثمار. ألا ترى أنه من السهولة بمكان لمن لا ذمة له ولا ضمير أن يقوم بشراء كمية من الأسهم قبل تنفيذ طلبات شراء الصندوق، ويستفيد من الارتفاع المرتقب لسعر السهم؟ هل علينا كمتداولين ومهتمين فقط إحسان النية والاعتماد على نزاهة الوسطاء والقائمين على الصناديق الاستثمارية؟ ألا تستدعي حالة تضارب المصالح هذه مراقبة ومتابعة صارمة من قبل الجهة المشرفة على السوق المالية؟
لا تقف هذه الجريمة عند الوسطاء وصناديق الاستثمار، بل إنها تجد مرتعاً آمناً لها في بيوت الخبرة والاستشارات والتوصيات، حيث تقوم هذه الجهات بإصدار دراسات وتوصيات وتحليلات محددة توزع على العملاء أو تباع بمقابل مادي، وحسب شهرة الجهة وشعبيتها من الممكن أن تتحرك الأسهم الموصى بها بشكل كبير بعد نشر هذه التقارير. في هذه الحالة ترتكب جريمة استباق أوامر العملاء عندما يقوم معد التقرير أو أحد من طرفه بإدخال أوامر بيع أو شراء قبيل إصدار التقرير لاستغلال التأثيرات المتوقعة على حركة الأسهم بعد صدور التقرير!
الحقيقة أن أنظمة السوق المالية على علم بهذه الظواهر، حيث تم إفراد عدة مواد بخصوصها في لائحة سلوكيات السوق، منها المادة الثانية عشرة التي تقول "يجب على الشخص المرخص له .. تنفيذ أوامر العملاء بشأن ورقة مالية قبل تنفيذ أي أمر لحسابه الخاص"، ومواد أخرى تتحدث عن "التنفيذ في الوقت المناسب"، و"التنفيذ بأفضل الشروط"، و"التخصيص في الوقت المناسب"، و"الوساطة المضرة لمصلحة العملاء"، و"تجميع أوامر العملاء"، و"التعامل السابق لنشر البحوث". غير أننا نعلم للأسف أن هذه المواد النظامية تم إدراجها في الأنظمة واللوائح كنوع من الممارسات العالمية المتفق عليها، ولا تعني بالضرورة أن هيئة السوق المالية لديها برامج رقابية واستقصائية مختصة بالرصد والمتابعة والمعاقبة. أقول إنها لا تعني بالضرورة، فربما هناك متابعة لمثل هذه الجرائم، غير أننا كمتابعين لا نعلم عنها شيئاً، ولم نسمع ولو حالة واحدة لشخص مرخص تم إلقاء القبض عليه بتهمة استباق أوامر العملاء.
هل السبب في اختفاء هذه الجريمة من سوقنا المالية يعود لنزاهة المرخص لهم من قبل الهيئة بشكل تنتفي عنده الحاجة إلى إجراء أي عمليات رصد ومتابعة؟ أتمنى أن لا يكون هذا السبب كوننا نعلم عن ضعف النفس البشرية، ونعلم أن المال السائب يعلم السرقة، وفي الوقت نفسه يهمنا أن نعلم عن وجود من يتابع ويرصد ويعاقب. ثم ألم يرد عن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - قوله "بلى ولكن ليطمئن قلبي" حين طلب من الله أن يريه كيف يحيي الموتى؟ أعتقد أننا بحاجة إلى أن تطمئن قلوبنا، فهل لدى هيئة السوق المالية آلية معينة لمتابعة مثل هذه الجرائم الخطيرة التي يتربح من خلالها قلة قليلة مرخصة على حساب جموع المتداولين؟ وهل تم إصدار تنبيهات وتوعية بشأنها لكافة المرخصين؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي